هل بوتين لا عقلاني؟
قالت وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس عن بوتين في عام 2014: «لست واثقة من أنه يهذي، لكنني واثقة من أنه غير عقلاني بالكامل».أضافت: «يعاني جنون العظمة، وعلينا أيضاً التعاطي مع احتمال بنسبة %5 أن يكون مصاباً بالهذيان».لم تشكّل كلماتها هذه مجرد تبجح كلامي، بل تُعتبر تشخيصاً له تداعيات سياسية خطيرة، بوتين من أنصار الحركة التنقيحية، فيكره الوضع القائم ويريد أن يوسّع حدود إمبراطورية روسيا المجتزأة، لذلك يقدِم على مخاطرات مدروسة.
لا شك أن ادعاءات بوتين خلال منتدى فالداي السنوي في المدينة السياحية سوتشي على البحر الأسود قبل أيام مثيرة للقلق، ويعود ذلك في جزء منه إلى أنها هذيان فعلي. زعم بوتين أن بواقي مجموعة تنظيم «داعش» الإرهابي في سورية نفذت أخيراً غارات قرب مدينة دير الزور السورية، علماً أن هذه المنطقة واقعة تحت سيطرة قوات تدعمها الولايات المتحدة، وأشار بوتين إلى أن هذه الميليشيا أسرت 700 شخص، من بينهم أميركيون وأوروبيون، ويخطط «داعش» لإعدام 10 منهم كل يوم ما لم تُلبَّ مطالبه غير المحددة، وتابع بوتين: «قبل يومين، قتلوا عشرة»، ولكن يبدو أن المسؤولين الأميركيين لا يملكون أدنى فكرة عما يتحدث الرئيس الروسي.على نحو مماثل، يبدو أن الرئيس الروسي قد أقنع نفسه بأن مواطني بلده السابقين يشاركونه إلى حد كبير في ذكرياته المجمّلة عن الاتحاد السوفياتي السابق، إذ يدّعي بوتين «أن الحياة في الاتحاد السوفياتي كانت أكثر أماناً وهدوءاً»، وأن المواطنين السوفيات في الجمهوريات «تمتعوا بفرص أكثر» و»شعروا بطمأنينة أكبر»، لكن سياسة روسيا تجاه جوارها تقوّض هذا التقييم.ترك بوتين تأكيداته الأكثر غرابة للآخر، أطرق هذا الحاكم الروسي المستبد بحزن، ثم أشار إلى أن الهيمنة الأميركية مسؤولة عن الجزء الأكبر من علل العالم، وذكر: «هذه نتيجة الاحتكار في عالم أحادي القطب، ومن حسن الحظ أن هذا الاحتكار يختفي، وأوشك على نهايته»، لكن روسيا هي التي تعاني الركود لا الولايات المتحدة. عاد عدد سكان روسيا إلى التقلص، وتتوقع الأمم المتحدة أن يتراجع عدد المواطنين الروس إلى ما دون 120 مليوناً بحلول عام 2050، ويعود ذلك في جزء منه إلى انخفاض عدد النساء في سن الإنجاب بنحو 28% بحلول عام 2032، وقد دفعت القوة العاملة المتقدمة في السن في روسيا موسكو إلى اتخاذ خطوة قاومته منذ عقود: خفض رواتب التقاعد التي تؤمنها الدولة، وبعد شهرين من التظاهرات وعمليات القمع العنيفة، وقّع بوتين أيضاً قانوناً يرمي إلى رفع سن التقاعد في روسيا بخمسة أعوام للرجال وثمانية للنساء، ولا شك أن هذه الخطوة قد تساهم في خفض شعبية بوتين على نحو خطير، فيعبّر الناخبون الروس اليوم عن ثقة أكبر بالجيش منه ببوتين، والحكومة المركزية التي يديرها، والهيئات الحاكمة المحلية التي يُفترض أن تكون أكثر تفاعلاً مع مخاوفهم.علاوة على ذلك، يعتمد الاقتصاد الروسي على إنتاج النفط ومشتقاته، مما يجعله هشاً، ومع أن موسكو تملك جيشاً كبيراً، إلا أنه قديم الطراز ويعجز عن تحديث نفسه، على سبيل المثال تُعتبر الطائرات المقاتلة من نوع سوخوي سو-57 طائرات من الجيل الخامس من غير المرجح أن تظل في الخدمة بعد عام 2027، في المقابل تنادي موسكو بأنظمتها الصاروخية المطورة المضادة للصواريخ من طراز إس-400، تقنيتها الصاروخية الخارقة لجدار الصوت، ومعداتها المائية المسيرة عن بعد، إلا أن هذه الخيارات التكتيكية الضيقة تعكس إدراك روسيا أنها ستظل في موقع الدفاع في المستقبل القريب. في فالداي، ادعى بوتين أن روسيا لن تتخذ مطلقاً الخطوة الأولى في استخدام الأسلحة النووية، إلا أن هذه مفاجأة لكل مَن يألف العقيدة العسكرية الروسية، حيث تسمح الاستراتيجية الروسية بـ»المبادرة إلى استعمال» الأسلحة النووية كمناورة للحد من التصعيد منذ نهاية الحرب الباردة تقريباً. ويرجع ذلك خصوصاً إلى عجزها عن الحفاظ على دفاع تقليدي في وجه قوات حلف شمال الأطلسي.ولكن لا يشير كل ما تقدم إلى أن روسيا ليست خطيرة. على العكس، تكون القوة المتقهقرة أكثر خطورة من القوة الناشئة لأنها تدرك أن الوقت ليس في مصلحتها، وقد تكون روسيا مستعدة للإقدام على مخاطرات شبيهة بما قامت به في سورية، وأوكرانيا، وجورجيا بغية تفادي المحتوم، وإن عرّضها ذلك لخطر استفزازها الغرب عن غير قصد، ويصبح خطر المواجهة العرضية أكبر إذا كان بوتين حقاً رجلاً غير عقلاني لا يمكن ردعه.ربما كان سلوك بوتين في فالداي مجرد استعراض جرأة مصمم للاستهلاك الخارجي، أو ربما كان إعراباً عن تقلبات استراتيجية أو حتى أمانٍ وأحلام، أو ربما، أكرر ربما، تكون كوندوليزا رايس محقة منذ البداية.* نواه روثمان*«كومانتري»