أعلن الاتحاد الأوروبي والصين في أواخر الشهر الماضي عزمهما تشكيل نظام عالمي خاص للدفع يسمح للشركات بمواصلة الأعمال التجارية مع إيران على الرغم من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على طهران، وقد بدأ تنفيذ بعض تلك العقوبات ولكن القسم الأكبر سيدخل حيز التنفيذ في شهر نوفمبر المقبل بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران.ويشكل الإعلان المشار إليه خطوة صغيرة لكنها مهمة نحو تشظي النظام الاقتصادي العالمي، وكان أصدقاء وأعداء الولايات المتحدة يبحثون عن طرق للابتعاد عن النظام التقليدي الذي يخضع لهيمنة الدولار، وقد وفرت سياسة الرئيس ترامب إزاء إيران حافزاً إضافياً بالنسبة إلى أولئك الذين يجهدون لتقويض هيمنة الولايات المتحدة الاقتصادية، ولذلك يتعين على واشنطن توخي الحذر والانتباه للخطر المحتمل.
خطط الاتحاد الأوروبي
يشعر أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة التقليديون بغضب من اختيار إدارة ترامب للخط الداعي الى معاقبتهم إذا واصلوا تعاملهم التجاري من الحكومة الإيرانية، وقال رئيس الوزراء البلجيكي تشارلز ميشال أخيراً إن «الاتحاد الأوروبي لا يستطيع القبول بأن تحدد الولايات المتحدة المناطق التي تستطيع أو لا تستطيع الشركات الأوروبية التعامل تجارياً معها».وقد أثارت سياسة واشنطن المتشددة إزاء إيران مسار عمل جريء وعملي، وعلى سبيل المثال ابتكرت مجموعة أوروبية عدة آليات اقتصادية تهدف الى إظهار استمرار دعم الاتحاد الأوروبي للاتفاق النووي مع إيران بشكل يخدم مصلحتها على الصعيد الاقتصادي، ويؤكد قدرة أوروبا على المضي في مسارها السياسي المستقل.وفي شهر أغسطس الماضي عمد الاتحاد الأوروبي بشكل رسمي الى إحياء قانون حقبة التسعينيات من القرن الماضي الذي يسمح للاتحاد بحماية أو تعويض الشركات الأوروبية التي تتعرض الى عقوبات من جانب الولايات المتحدة. وفي شهر سبتمبر أوجزت مستشارة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبيي فيديريكا موغيريني خطط الاتحاد الرامية إلى إنشاء ما يدعى آلية الغرض الخاص، وهو مؤسسة مالية لا مصرف بالمعنى الصحيح ليقوم بمعالجة الدفعات المالية بين إيران وشركائها التجاريين الدوليين.هيمنة الدولار
في الأجل القصير هذا مجرد كلام يهدف إلى التشدد، وليس في وسع رجال السياسة في الاتحاد الأوروبي إرغام الشركات الأوروبية على الاستمرار في شراء النفط الإيراني أو تزويد طهران بقطع غيار للسيارات، ومثل تلك المعاملات ستفضي إلى فرض عقوبات من جانب الولايات المتحدة تؤدي الى تجميد نظام الدفع إلى تلك الشركات بالدولار على صعيد عالمي والى الحرمان من 20 تريليون دولار من الاقتصاد الأميركي، وهو يعني على الأرجح نهاية أي شركة عالمية.وعندما تدخل العقوبات الأميركية على إيران حيز التنفيذ في شهر نوفمبر المقبل سيغتنم عدد قليل من الشركات ميزة قانون الحجب المذكور أعلاه، لأنه يوفر حماية طفيفة كما ينسحب الشيء نفسه على المؤسسة المالية للغرض الخاص التي لا تستطيع حماية الشركات التي تستخدم ذلك القانون أو البنوك التي تعمل على شكل ممر بين تلك المؤسسة المالية والنظام المالي الرسمي من العقوبات الأميركية. وقد يكون في وسع الولايات المتحدة فرض عقوبات على المؤسسة المالية نفسها إذا احتضنت أنشطة يحظرها قانون العقوبات الأميركية، ثم إن العشرات من الشركات الأوروبية الكبيرة بما فيها اير باص ومايرسك وبيجو وسيمنس وتوتال قد أعلنت أنها تنوي قطع تعاملاتها التجارية مع إيران.وستتمكن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي ليس لها تعاملات تجارية واسعة مع الولايات المتحدة من الاستمرار في العمل مع إيران، ولكنها لا تشكل شريحة مهمة في العمل التجاري مع طهران بالنسبة الى العالم، بحيث تحول دون انكماش الاقتصاد الإيراني، وقد بدأ التضخم في إيران بالارتفاع، وتستعد الشركات هناك لمواجهة النقص في العملة الصعبة عندما تبدأ العقوبات الأميركية خلال فترة قصيرة.تأثير العقوبات
وعندما تم فرض العقوبات القاسية على إيران في سنة 2012 هبطت صادراتها من النفط بأكثر من مليون برميل في اليوم، وسيكلف مثل هذا الهبوط اليوم إيران– عند مستوى أسعار النفط الحالية– أكثر من 80 مليون دولار في العوائد اليومية أي ما يعادل بشكل تقريبي نصف أرباحها من تصدير النفط. وفي ضوء هذه الخلفية، يسهل استبعاد جهود أوروبا واعتبارها مجرد تفكير رغبي فقط. وعلى سبيل المثال فإن الجمعية المصرفية البريطانية، يو كي فاينانس، شككت بشدة في قانون الحجب قائلة إنه يمثل أخطاراً كبيرة وتعقيدات قانونية. والأكثر من ذلك، لا توجد فرصة في أن تحل المؤسسة المالية للغرض الخاص محل نظام الدفع العالمي «سويفت» الذي يتخذ من بلجيكا مقراً له والذي يشكل دعامة النظام المالي الدولي، وبلغت التجارة الأوروبية مع إيران 787 مليون دولار في العام الماضي، أي أقل بنحو 3 في المئة من إجمالي التجارة الأوروبية. وبالمقارنة يمر نحو 5 تريليونات دولار عبر نظام سويفت يومياً ومن المحتمل أن تنخفض تجارة أوروبا مع إيران في أعقاب إعادة فرض العقوبات الأميركية.قِصر النظر
وعلى الرغم من ذلك فإن استبعاد الجهود الأوروبية الرامية الى إقامة آلية دفع بديلة سينم عن قصر نظر، وريادة الاقتصاد الأميركي ليست دائمة وغير قابلة للتغيير، كما أن النظام المالي التقليدي لن يستمر بالضرورة الى الأبد. وفي حقيقة الأمر فإن تشظي النظام الاقتصادي العالمي قد يكون السمة الرئيسة في العقود المقبلة.ومع ضغط الولايات المتحدة على حلفائها سيقومون أيضاً بضغوط مقابلة، واقتصاد الاتحاد الأوروبي أكبر من أن يتعرض لعقوبات فهو يشتمل على 22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وينفذ سدس العمليات التجارية العالمية كما يشكل أكبر سوق وحيد للبضائع والخدمات وعملتيه– اليورو والجنيه الإسترليني– هما ثاني وثالث العملات استخداماً على التوالي. وإذا انخرطت الصين وروسيا في آلية الدفع الخاصة– كما سبق أن اقترحت فيديريكا موغيريني– فإن ذلك يعني وجود مورد أفضل لمواجهة خطر العقوبات.ولدى الصين طموحات قد تجعلها مفيدة بشكل خاص بالنسبة الى جهود الاتحاد الأوروبي: فهي تسعى الى رفع قيمة عملتها فيما تستثمر في مشاريع حول العالم، كما أنها ترفض الكثير من القواعد الدولية في الممارسات التجارية وتعمل على تطوير مقاييسها الوطنية الفريدة في قطاعات تحتوي على توجيه دولي، وتنشىء محاكمها الخاصة من أجل حل النزاعات التجارية بين الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق.وتجدر الاشارة الى أن الجهود الحالية الهادفة الى تجاوز العقوبات الأميركية تعتبر غير مسبوقة في ابتكارها، وهي أكثر قوة ومتعددة الجنسية بقدر يفوق المحاولات السابقة لمقاومة العقوبات، كما تبدو الارادة السياسية الداعمة لها من النوع المستدام في وجه السياسات العدوانية الأميركية. وفي الأجل القريب لا يحتمل أن ينمو آلية الغرض الخاص بسرعة كبيرة أو أن تحتضن شركات كبيرة، وقد تخدم على شكل نظام محاسبة للتجارة القانونية غير الخاضعة للعقوبات على إيران في المواد الغذائية والطبية، كما أن بعض الشركات الصغيرة التي تربطها علاقات محدودة مع الولايات المتحدة قد تشارك فيها أيضاً، وتختبر إمكانية التعامل التجاري مع إيران. وسيسمح هذا لصناع السياسة بتحسين آلية الغرض الخاص بحيث تتوسع في وقت لاحق.فوائد إيران المحدودة
الفوائد التي قد تجنيها إيران من آلية الغرض الخاص أو غيرها من وسائل الدفع المماثلة ستكون محدودة على الأرجح، ويرجع ذلك الى انتشار الفساد وعدم الشفافية في الكثير من الشركات في ذلك البلد، كما أن التعامل التجاري مع طهران يعتبر بصورة عامة محفوفاً بالمخاطر، ولكن آلية الغرض الخاص ستشكل نموذجاً أولياً لأنظمة الدفع في المستقبل، تهدف الى تفادي السلطة الأميركية ومنصات الدفع التقليدية.وتعتبر آلية الغرض الخاص واحدة من الكثير من الآليات التي ستعيد توجيه تدفقات التجارة وسلاسل الإمداد والعلاقات المصرفية وعمليات الدفع في وجه الإجراءات الاقتصادية الأميركية الضارة، وعلى الرغم من ذلك فإن ما يثير القلق هو أن الولايات المتحدة نفسها تعمل على تسريع هذا الاتجاه والمسار. ومن خلال فرض عقوبات بشكل أحادي تشجع الولايات المتحدة الدول الأخرى على إقامة أقنية اقتصادية مستقلة، ويمكن لمثل هذه الجهود أن تجمع بين دول تسعى الى مواجهة الولايات المتحدة وسيكون في وسع أعداء واشنطن عندئذ استخدام تلك الأقنية من أجل تفادي العقوبات الأميركية التي ستفقد تأثيرها.يذكر أنه بعد يوم واحد من تصريحات موغيريني حول خطط الاتحاد الأوروبي قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إن آلية الغرض الخاص «واحدة من أسوأ الإجراءات بالنسبة الى الأمن الاقليمي والعالمي».