مقاتلات البيشمركة: من الجبهات الأمامية إلى التهميش
مع ظهور تنظيم «داعش» في 2014، انهارت القيود الثقافية التي كانت تحيط بالمرأة، وإذ بنساء البيشمركة يضطلعن بأدوار قتالية أكثر فاعلية إلى أن انضممن في نهاية المطاف إلى الجبهات الأمامية في المعارك ضد «داعش»، وحاربن بشجاعة وقدمن مساهمة قيمة في القوات القتالية.
لطالما خدمت المرأة في قوات البيشمركة على مدى عقود من الزمن، بيد أن إناث البيشمركة وجدن أنفسهن منوطات في المقام الأول بمهام حفظ الأمن على الحدود وحماية ملاجئ النساء وتقديم الخدمات الطبية والتواصلية، ونادرا ما تولّت المقاتلات مهام قتالية إنما بقين بعيدا عن الخطوط الأمامية حيث تمركز رفاقهن الذكور.لكن مع ظهور تنظيم «داعش» في يونيو 2014، انهارت المحرمات والقيود الثقافية التي كانت تحيط بالمرأة، وإذ بنساء البيشمركة يضطلعن بأدوار قتالية أكثر فاعلية إلى أن انضممن في نهاية المطاف إلى الجبهات الأمامية في المعارك ضد «داعش»، وحاربن بشجاعة وأثبتن لكل مجندة مرشحة ولرؤسائهن ككل لنساء البيشمركة مساهمة قيمة في القوات القتالية. ولكن مع سقوط «داعش»ـ عادت النساء مرة أخرى إلى التساؤل عما إذا كان سيتم الاعتراف بمساهماتهن أم أنهن سيرغمن على العودة إلى أدوارهن المحدودة السابقة.قبل إلحاق المقاتلات رسميا بقوات البيشمركة عام 1996، تمكنت هؤلاء النساء من أداء الخدمة العسكرية إلى جانب قوات البيشمركة منذ سبعينيات القرن العشرين، فقد قام «الاتحاد الوطني الكردستاني» بتشكيل أول وحدة مؤلفة بالكامل من النساء عام 1996، وتنامت هذه الوحدة لتضم أكثر من 500 مقاتلة، مع الإشارة إلى أن أعضاءها الإناث تبوأن مناصب رفيعة في السلك العسكري وصولا إلى رتبة عقيد.
فرصة فريدة
غير أن مشاركة المرأة الرسمية في البيشمركة على مدى عقود طويلة لم تمنحها الفرص اللازمة للاضطلاع بمهام تتعدى نطاق الأدوار المحدودة المخصصة لها. في المقابل، أتاحت المعركة المطولة ضد «داعش» فرصة فريدة أمام النساء لتولي أدوار قتالية ناشطة على الجبهات الأمامية. ففي يونيو 2014، تم نشر أول مجموعة نسائية من البيشمركة عند جبهة البشير، وشاركت المقاتلات أيضا في العملية التي شنت لاستعادة سد الموصل خلال شهر أغسطس من العام نفسه. وبعد استعادة السيطرة على السد، واصلت عشرة من نساء البيشمركة حماية السد في مؤشر على تغير دور المرأة الكردية على مستوى القتال في الحرب.في عام 2016، وفيما كان التخطيط جاريا لتحرير الموصل، خضعت نحو ألف امرأة من وحدة الزيرفاني التابعة للبشمركة تتراوح أعمارهن بين 18 و40 سنة لتدريب مكثف دام لشهرين في قاعدة كردية خارج أربيل على يد قوات التحالف الإيطالية. وفي العام نفسه، أصبحت نساء البيشمركة جزءا من المهمة الآيلة إلى فرض الأمن في كركوك والحقول النفطية المجاورة لها وانتزعت من «داعش» خلال يوليو من ذاك العام منشآت إنتاج النفط في باي حسن بكركوك.كما أن المشاركة في الحرب ضد «داعش» من خلال قوات البيشمركة باتت ضرورة ومصدر فخر للنساء الأيزيديات ككل، فقد تطوعت هؤلاء النساء للانضمام إلى صفوف البيشمركة بعد مجزرة سنجار التي وقعت في أغسطس 2014 وقتل واختطف فيها آلاف الأيزيديين على يد عناصر «داعش» وأرغموا على الهروب إلى جبل سنجار. ومن بين هؤلاء مغنية أيزيدية سابقة تدعى خاتون خيدر هربت من مجزرة 2014 إلى جبل سنجار ونالت في يناير 2015 إذنا رسميا من حكومة إقليم كردستان بتشكيل كتيبة مؤلفة من النساء الأيزيديات وأصبحت آمرة كتيبة «قوة سيدات الشمس». وفي مطلع عام 2017، ضمت «قوة الشمس» نحو 200 امرأة مدربة من البيشمركة تتراوح أعمارهن بين 18 و38 سنة. وفي عام 2016، أتمت 127 امرأة كردية أيزيدية دورة تدريب أساسي مكثف دام 45 يوما في قاعدة «النمر» التابعة للبيشمركة في فيشخابور الواقعة ضمن قضاء زاخو بكردستان العراق.أثبتت المعركة ضد «داعش» بدون أدنى شك المهارات القتالية والقيادية الاستثنائية لدى المقاتلات، والعقيدة ناهدة أحمد رشيد التي تعتبر حاليا القائدة الأعلى رتبة بين الإناث في البيشمركة هي مثال واحد من بين الكثيرات. والواقع أن العديد من النساء يبدين اهتماما بالمشاركة في المهام القتالية، لكن للمرة الأولى منذ 18 سنة اضطرت وحدة النساء إلى رفض المرشحات اللواتي يردن الانضمام إليها بسبب افتقارها إلى إمكانيات التدريب. مع ذلك، وفيما تشرف المعركة ضد «داعش» على نهايتها، لا يزال مستقبل مقاتلات البيشمركة والمسألة الأكبر المتعلقة بالتمثيل النسائي في كردستان مجهولا. بيد أن أحد النماذج الإيجابية الذي يمكن تطبيقه في المستقبل يتمثل في «وحدات حماية المرأة» في سورية، وهي منظمة عسكرية أسست عام 2013 وتتألف بالكامل من النساء. إذ تعطي «وحدات حماية المرأة» مثالا واضحا عن المقاتلات اللواتي نجحن في كسر الحواجز التقليدية التي تعوق دور المرأة في المجتمع السوري وفي نيل حرية أكثر ثباتا من خلال قتالهن الجماعي ضد «داعش».وترى الكثيرات من أعضاء «وحدات حماية المرأة» والمنظمات العسكرية النسائية الأخرى أن الوحدات النسائية منحت المرأة فرصة التحرر من هيمنة الذكور وأوجدت بيئة نمت فيها حقوق المرأة والمساواة بين المرأة والرجل. وبالفعل فإن السلطة اليوم في «روج آفا» مقسمة بين الرجال والنساء بالتساوي. وفيما لا يزال السؤال مطروحا عما إذا كانت هذه المساواة ستظل قائمة بعد ترسخ الاستقرار في «روج آفا»، فانخراط المرأة في المراتب العسكرية والسياسية يبشر خيرا في ما يتعلق بانخراطها المستقبلي في الحياة المدنية واحتمال تغير الرأي العام حول دور المرأة بالإجمال.إلا أن نساء البيشمركة في العراق يخشين اليوم من سير الأمور بالاتجاه المعاكس، ففي عدد من المقابلات التي أجراها كاتب المقال في إحدى قواعد البيشمركة خلال شهري مارس وأبريل 2018، أعربت مقاتلات البيشمركة عن قلقهن إزاء احتفاظهن بالحرية بعد انتهاء الحرب ضد «داعش». وحتى في الربيع، كانت مقصورات الثكنة البيضاء الضيقة تستعر حرا من حرارة الشمس البالغة 45 درجة مئوية، والنساء اللواتي يقمن في تلك القواعد يعتمدن على التضامن الاجتماعي القوي الذي نشأ ضمن وحداتهن، ولكنهن بطريقة ما محتجزات داخل تلك المقصورات. فبالرغم من تدريبهن، بات عملهن اليوم محصورا بحراسة قواعدهن حيث يعملن في غالب الأحيان على تقطيع الخضار ليلا لمقصف القاعدة. وبخلاف ذكور البيشمركة، ينبغي على النساء البقاء داخل القاعدة خلال أيام الخدمة، وكثيرات منهن يخشين أن يصبح هذا هو شكل المشاركة في البيشمركة بعد هزيمة «داعش» بالكامل.قرار الرحيل
وقد أعربت إحدى الجنديات عن تخوفها حيال مستقبل وحدتها، مشتكية بأن بعض النساء قررن الرحيل بسبب نقص الخدمات المتوفرة داخل القواعد وبسبب الملل. وقد كشفت عن استيائها المتعاظم من غياب ثقة الحكومة بهن حتى بعد أن أثبتت وحدات البيشمركة النسائية جدارتها، فقالت: «أنا وزوجي وأسرتي بأكملها مؤمنون بقدراتي، لكن يبدو أن الحكومة لا تؤمن بها».وقالت مقاتلة أخرى في البيشمركة: «حين لم يكن أحد يجرؤ على دخول كركوك، عملنا مع ذكور البيشمركة لإرغام داعش على الخروج منها». ولكن في المقابل «أصبحنا اليوم نستعمل للتغطية الإعلامية لا غير. نحن نطالب لنساء البيشمركة بالمساواة وبالمزيد من الحقوق وبالاهتمام نفسه الذي يحظى به شركاؤنا الذكور». لقد اعتبرت تلك النساء مشاركتهن في البيشمركة دليلا على مساواة اجتماعية أكبر، ولكن أمام حكومة إقليم كردستان اليوم فرصة للاستفادة من النجاحات التي حققتها وحدات النساء القتالية ضد «داعش» من أجل إحداث تغيير اجتماعي إيجابي وراسخ. وإلحاق النساء بوحدات المواجهة المباشرة قد يسهم في تكوين صورة أكثر إيجابية عن أدوار المرأة في المراكز العامة الأخرى. ومن الضروري في المرحلة المقبلة إعطاء النساء أدوارا أكبر بعد من أدوارهن الحالية من أجل إظهار المنافع المتأتية عن مشاركة المرأة بالتساوي مع الرجل في المؤسسات على غرار قوات البيشمركة.في الوقت الحاضر، تتوفر أمام حكومة إقليم كردستان فرصة فريدة للاستمرار بتطبيق السياسات المتبعة إزاء قوات البيشمركة النسائية اللواتي رسمن معالم الحرب ضد «داعش» بصفتهن أعضاء متساوين لا مجرد فرقة مساندة. مع ذلك، إذا تركت القوات النسائية موهنة في مناصبها السابقة، فسوف تضيع هذه الفرصة.إن التمثيل المنقوص للمرأة في الحياة العامة وتقليل المهام التي يتوقع منها تنفيذها إلى الحد الأدنى ينبغي معالجته عن طريق تغيير القوانين والسياسات التي تركز على تعزيز المساواة بين الجنسين، ومن خلال المسؤولية المدنية المتساوية يأتي الأداء المتساوي للمرأة من حيث الواجبات المدنية، والذي يخدم الجميع. إن حكومة إقليم كردستان، وقيادات البيشمركة، ومنظمات المجتمع المدني جميعها مسؤولة عن قيادة عملية التغيير التي تضمن بقاء النساء في وحدات قتالية.يبين مثال «وحدات حماية المرأة» أن كردستان العراق قادرة أن تصبح قصة يضرب بها المثل عن تعزيز دور المرأة في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية – ولكن لا بد من منح المرأة فرصة المشاركة بالتساوي مع الرجل في الأدوار التي كانت متاحة لها في السابق.
بعد سقوط «داعش» عادت النساء إلى التساؤل عما إذا كان سيتم الاعتراف بمساهماتهن القتالية أم سيرغمن على العودة إلى أدوارهن المحدودة السابقة
أمام حكومة كردستان فرصة للاستفادة من النجاحات التي حققتها وحدات النساء القتالية ضد «داعش» لإحداث تغيير اجتماعي إيجابي وراسخ
مشاركة المرأة الرسمية في البيشمركة على مدى عقود طويلة لم تمنحها الفرص اللازمة للاضطلاع بمهام تتعدى نطاق الأدوار المحدودة المخصصة لها
أمام حكومة كردستان فرصة للاستفادة من النجاحات التي حققتها وحدات النساء القتالية ضد «داعش» لإحداث تغيير اجتماعي إيجابي وراسخ
مشاركة المرأة الرسمية في البيشمركة على مدى عقود طويلة لم تمنحها الفرص اللازمة للاضطلاع بمهام تتعدى نطاق الأدوار المحدودة المخصصة لها