في أغسطس الماضي اقترح القادة السياسيون في صربيا وكوسوفو حلاً للتوترات المستمرة منذ زمن بعيد بين البلدين عن طريق تبادل للأرض تصبح بموجبه البلديات الواقعة في شمال كوسوفو ويقطنها سكان من الصرب تحت ادارة بلغراد، بينما تخضع البلدات ذات الأغلبية الألبانية في جنوب صربيا لادارة بريستينا. وعمد سياسيون واختصاصيون الى تقييم ظل فكرة غامضة لأكثر من شهر بعد ذلك. ويبدو أن أحداً لم يعتبر تلك الفكرة لامعة أو تستحق النظر واختلفت ردة الفعل العامة بين القبول على مضض والاستخفاف الصادم. ولكن لم يطرح الجانبان الكثير من الاعتبار لما كان يجب أن يمثل السؤال المركزي المهم وهو كيفية تأثير التغيرات المقترحة على السكان في المناطق الخاضعة للنقاش؟المعروف أن افتراض أن السكان الألبان والصرب وغيرهم من المقيمين في البلقان يريدون بشكل أساسي العيش على أرض وطنية هو مجرد تفكير زائف. وتوفر نسبة عالية جداً من الهجرة من خارج المنطقة الى دول متعددة الثقافة حيث يتمتع الناس بفرصة أكبر في الحصول على وظائف وتعليم ورعاية اجتماعية أدلة عصرية على أن المتطلبات المادية تساوي في القوة المتطلبات الرمزية. واذا نظرنا بعمق أكثر الى تاريخ هذه المنطقة فسوف نجد أن الهجرة والاختلاط والتنوع والنفوذ المتبادل لا تشكل فقط عاملاً أساسياً للحياة الاجتماعية طوال الكثير من القرون بل إنها كانت على الدوام في صلب تلك السمات التي تضفي الصبغة الفريدة على الحياة الاجتماعية والثقافية للسكان البلقان، وهذا واضح من خلال مظاهر كل ميدان في الحياة الاجتماعية بما في ذلك اللغة والتركيبة السكانية والديانة وحتى نوعية الطعام.
النزعة الوطنية
وخلال المئة وخمسين سنة الماضية سعت النزعة الوطنية الى الغاء ذلك الارث التاريخي الثقافي الغني وتم توجيه مشاعر خيبة الأمل والاحباط والاستياء نحو الهيمنة العرقية والأنظمة المتعددة الثقافة غير الناجحة والتي ساعدت الوطنيين على تأكيد أفكارهم في هذا الشأن. وحيث تأسست الدول الوطنية وشبه الوطنية شجع التمييز الناس على تحويل هويتهم وتوجهاتهم نحو المجموعات المهيمنة أو لتأكيد مراكزهم ضد تلك المجموعات.وعلى الرغم من ذلك وفي الأساس فقد اصطدم المشروع الوطني الداعي الى اقامة وحدات اقليمية متجانسة وبصورة متكررة بالتجربة الحية لسكان المنطقة وكانت الوسيلة الوحيدة الفعلية لتحقيق المشروع تتمثل في نقل السكان وذلك عن طريق اللجوء الى العنف فقط. وقد اضطر المراقبون من الخارج الى التحدث عن البوسنة والهرسك على شكل ما يدعى «مناطق عرقية» و»مجموعات عرقية» لأن استمرار العنف أسهم في تغيير سمة تلك المناطق والمجموعات. وفعل انتقال الحدود الشيء نفسه ولكن بدرجة أقل دراماتيكية وأكثر بطئاً. وكانت التأثيرات في الحالتين واحدة وهي جعل عواقب العنف شرعية وتبدو وكأنها الأسباب التي أفضت الى تلك الحصيلة.وتكمن التعقيدات هنا في أن رسم حدود جديدة تهدف الى اقامة مناطق متجانسة وطنية يمكن أن ينجح ولكن ليس من دون اللجوء الى استخدام العنف بدرجة كبيرة واعتماد حملة مستمرة تشجع الناس على تطوير أفكار حول هويتهم والى أي جهة ينتمون وماذا يريدون. وقد استمرت تلك الحملة ونجحت بصورة جزئية ولكنها فشلت في ما بعد.وكان هذا هو الوضع في ذلك الوقت، ولكن ماذا عن السلام؟ وكما يشير الفشل في تغيير اسم مقدونيا في الاستفتاء الذي جرى أخيراً فإن التوصل الى اتفاق من دون ضمان موافقة الناس أولاً يتسم بالخطورة والشك. كما أن القرارات التي يتم التوصل اليها بصورة غير صادقة تتداعى بسرعة. واستمرار السلام يتطلب اظهار المفاوضات درجة من الحساسية والوعي ازاء الطريقة يحب الناس في تلك المناطق ورجال السياسة أيضاً الجدال حول ما يحتاجون اليه بشكل واقعي.البدائل المطروحة
تمثل مشاريع اعادة رسم الحدود استراتيجية ترضي رغبات السياسيين في الأجل القصير وهي تعكس عواقب سلبية في الخارج كما أنها سوف تفشل في نهاية المطاف، وسوف تحاول البدائل المطروحة معالجة احتياجات المواطنين في الأجل الطويل وإقامة علاقات غير موجودة.وسوف يبدأ مثل هذا الأسلوب بالاعتراف بالحقائق على الأرض، وقد أهدرت سنوات من النزاع حول ما اذا كانت كوسوفو دولة أم لا، إنها دولة. وربما كانت مجرد اقليم يتمتع بحكم ذاتي في صربيا في مرحلة ما ولكن آخر فترة من الاحتلال دمرت شرعية ذلك الترتيب تماماً. ويبلغ عدد سكان كوسوفو في الوقت الراهن 1.8 مليون نسمة ولن يقبل ذلك الشعب أي نوع من الحكم من صربيا كما أن الأخيرة ليست لديها القدرة أو النية من أجل تأكيد حكمها على كوسوفو، ثم إن الاعتراف المتبادل واقامة علاقات دبلوماسية سوف يؤكد هذه الحقيقة ويوفر المسار اللازم للشعب في الدولتين لمعرفة وتحديد حقوقه القانونية والاجتماعية.الحاجات الإنسانية والاجتماعية
سوف يكون قادة السياسة في المنطقة في حاجة الى إعطاء أولوية الى قضية تلبية الاحتياجات الانسانية والاجتماعية، ومنذ عام 1991 فصاعداً في ذلك الجزء من العالم كانت هناك حاجة الى مناقشة على نطاق واسع حول ما اذا كان يحق لإحدى مجموعات ذلك الشعب التمتع بدولة مستقلة، ولكن هذه المناقشة لم يواكبها جدال حول نوعية تلك الدولة على أي حال. كما أن شرعية الدولة تنبع ليس من قدرتها على وضع مجموعة من الجمعيات بل من قدرتها على توفير احتياجات ومتطلبات الشعب في ميادين التوظيف والاسكان والتعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية وجوانب الأمن الأساسية.وإضافة الى ذلك فإن الاندماج لا يقتصر على الوجود بل يشمل أيضاً الأداء الضروري في ميادين مثل البلديات الشمالية في كوسوفو، حيث انتقلت الحوكمة الى أيدي جهات تعمل في ميادين الاقتصادي الخفي. ثم إن مشاكل تراجع القضايا البيئية هي ذاتها في أجسام الناس بغض النظر عن كونهم من الألبان أو الصرب، وفي وسع حكومة مسؤولة – أو حكومتين – تأكيد شرعيتها عن طريق معالجة هموم المواطنين المباشرة والملموسة.الحل الدائم
ويتمثل الحل الدائم في تحسين التعاون ليس في القضايا الراسخة والثابتة بل في تلك المتعلقة بإرث النزاع في البلاد، والكثير من مصادر عدم الثقة الأكثر عمقاً هي بقايا حوادث لم يتم حلها بسبب وجود الضحايا والشهود في أحد جانبي الحدود ووجود الفاعلين في الجانب الآخر من تلك الحدود. وفي غضون ذلك، لا تحافظ السلطة القضائية في أي من الجانبين على اتصالات مع الجانب الآخر. ويمكن للحلول الفنية المتعلقة بمثل هذا المأزق أن تساعد في تطوير الثقة حتى في حال غياب المبادرات السياسية الأوسع التي تشمل الاعتراف المتبادل. وقال رئيس جمهورية صربيا الكسندر فوتشيتس في بيان عن رئيس جمهورية كوسوفو هاشم تقي هل يحبني؟ لا. وأنا لا أحبه على الاطلاق ولكن يتعين علينا الجلوس معاً والعمل والتفاوض. وعلى أي حال، وبعيداً عن العلاقات بين هذين السياسيين تظل الروابط مبنية على الثقة حيث يعتمد كل طرف على الطرف الآخر في طرح شيء ما من خلال عملية التفاوض الطويلة يقبل به الشعب هناك. وقد قوضت طريقة تعبير السياسيين عن هذه العلاقة علاقات المجتمع والثقة بين الناس في ذلك الجزء من العالم، ويتعين على أي نوع من الحلول المستدامة لهذه المشكلة أن يعيد بناء هذه الثقة وتحسين أمن المواطنين وتشجيع الاتصالات المتبادلة.