حروفنا ليست ضعيفة
حرف صغير هو "الراء"، يتربع واثقاً وسط كلمة، يبدل معنى الحب السامي في جوهره ومعانيه إلى معنى آخر مخيف ومرعب حين يعبث بجلاله ويفتت تماسكه، يدخل إلى الحب فتتحول الكلمة إلى "حرب"! هذا الحرف الصغير حين يأخذ موضعه بثقة تامة فإنه يـُبدّل البِناء بالهـَدم والجمال بالقُبح ويترك الباب مفتوحا أمام متناقضات تسرح وتمرح في نفس الإنسان تلازمه مثل ظله وتسيطر على خلجاته، وتفتش في خبايا أفكاره عن خيالات سوداء العواقب. لو سألنا عاقلاً: أيهما تُفَضـِّل: الحـُب أم الحـَرب؟!
يميل العقلاء إلى جانب الحب، فلا يمكن تصور عاقل يفضل الحرب أو العنف بكل أشكاله في مقدمة البحث عن الحلول المستعصية، لأن طبيعة البشر تجد قوتها في الحب الذي ينبثق من جوهره الترابط والتماسك والأمن وتترعرع في ظله خيرات الإنسانية الكثيرة وتفسح المجال للإبداع الخلاق الذي يصوغ صفة الحضارات واحتياجات البشر. ولو سألنا آخر غير عاقل نفس السؤال... ربما أجاب بنفس جواب العاقل، ولكن قد يصدمنا أن نجد بعض العقلاء أيضا ينحازون إلى الحرب بشكل لا يمكننا معه اليقين إن كان انحيازا ساخرا أم عن غير وعي وبدون إدراك، وهنا تكون الطامة الكبرى إذ يتعذر التنبؤ بالنتائج إن تحولت هذه السخرية إلى جـَدّ مدمر يصعب تداركه. تقول غادة السمان: "من لا يخفق قلبه للحب بصدق، فلن يشمئز قلبه من البشاعة التي هي الحرب والمرض والأنانية والقسوة وكل ما يشكو منه عالمنا المعذب ".حرص الإنسان منذ تكاثر وازداد عدده وتوزع قبائل وشعوباً على وضع ضوابط تحفظ لكل من الحب والحرب حدودهما فوضع مواثيق غليظة تحرّم التجاوز المفرط في الحب وتوجهه نحو الرذيلة والانحراف كما المواثيق التي تحرم الحرب بدون سبب وبعد نفاد وسائل إصلاح ذات البين. عن الحرب تقول الكاتبة والصحفية البروسية سفيتلانا أليكسييفيتش: "كنا نموت هناك بينما كانوا يشاهدون هذه الحرب على شاشات التلفاز، لقد كانت الحرب بالنسبة لهم مجرد فـُرجة، أتصدقون: كنا نموت وقد كانت مجرد فرجة!". أي سخرية أكبر من هذا الذي تصفه الكاتبة حول طباع البشر حين تنحرف عن جادة العقل والصواب وتُنحي المحبة والسلام بعيدا، لتحل مكانها حرب تصبح "فـُرجة" عند من شغلت تلك الشياطين عقولهم وهم كـُثر ووسوست لهم بفعل الخراب دون أن يهتز لهم جفن، بل جلسوا على الآرائك في انتظار اقتسام الغنائم أو الاستحواذ عليها كلها. حروفنا العربية ليست ضعيفة ولا واهنة، كما رأينا مثالا واحدا، فحرف صغير هو الراء وُضـِع في كلمة فغيّر جوهرها وصورتها ونتائجها من فَرح وبُشرى وسرور إلى حُزنٍ دائم وتاريخ لن تنساه الشعوب، إن سقطت في مستنقعها... إنها الحَرب التي تربعت "الراء" في وسطها! * كاتب فلسطيني- كندا