نقطة: الإنسانية مالها صاحب
ها قد اعترفت المملكة العربية السعودية بالجريمة التي حدثت في قنصليتها بتركيا، بحق المرحوم جمال خاشقجي، وبدأت فوراً عملية حصر خسائرها وأضرارها، تمهيداً لإعادة ترميم صورتها وهيبتها، التي تسبب بتهشيمها بعض المندفعين المارقين قليلي الخبرة والدراية، سيئي الأخلاق والتدريب من أبنائها، فلنترك الآن الجانب السعودي من الموضوع، فقد أخذ ما يكفيه وزيادة من التركيز والشحن والتغطية الإعلامية المهتاجة، ولننتبه قليلاً لبعض من كان يتباكى باسم الإنسانية على جمال خاشقجي قبل الاعتراف السعودي، ولم يتوقف عن الضحك بعده، ليفضح نواياه بسرعة، أو من كان يشق الجيوب على حال الجثة، وكأن مشكلته بالتقطيع فقط لا القتل أساساً، واندفق حينها شلال عظيم من الشعارات والكلمات والتغريدات الإنسانية والعاطفية، وكأن مثل هذه المشاعر الإنسانية النبيلة لم تعرفها البشرية إلا قبل اختفاء جمال خاشقجي بيومين فقط، هذه الانتقائية الفجة لدى البعض في رفع الشعارات الإنسانية، حسب موقفهم من أطراف الأحداث، غالباً ما تسيء للقضايا وللضحايا أكثر من المستهدفين بها، فالبعض حين يرفع هذه الشعارات يشعرك وكأنه نرويجي أو سويدي، في أسوأ الأحوال، يعاير سورياً أو إيرانياً من أتباع النظام، بينما هو نفسه من يرفع الشعار الإنساني في قضية ويهتك عرضه في موقع آخر، حسب المزاج والحزب والجغرافيا والمذهب، أو ما يراه مناسباً من أسباب غض البصر، فتؤدي كثرة استخدام هذه الشعارات الإنسانية بعشوائية وخدمة لقضايا سياسية ووفق معايير مزدوجة، إلى ابتذالها وفقدها لقيمتها ومصداقيتها، مع مرور الوقت وسوء الاستهلاك، ويضيع بالمنتصف الكثير من القضايا الإنسانية الحقيقية الصادقة في زحمة الخلافات السياسية المموهة بشعارات عاطفية.القيم الإنسانية فوق السياسة ودهاليزها، وأرقى وأهم بكثير جداً، فدعوها نقية ولا تلوثوها بمعارككم الغبية، فإذا حدث خلاف بين دولتين وأردت الاصطفاف مع إحداهما، وانتقاد الأخرى، فذلك حقك، فاشتُم وخوِّن وعايِر من تريد وتحمَّل ما يأتيك، ولكن لا تدخل الإنسانية بالموضوع حتى لا تُفسد قيمتها ومعناها وصورتها بكذبك ومعاييرك المزدوجة، كما أن كثرة ترديدك لها لا يجعلك شخصاً رقيقاً وشفافاً وصاحب موقف حقيقي، كما قد تظن، بل أنت أقرب للنائحات المستأجرات في هذه الحالة.