«في أحد الأيام سيعود السلام إلى لبنان وسأعاود عرض أعمالي في بيروت والعثور على جذوري هناك»، عبارة ظلّ الرسام التشكيلي اللبناني روبير مسره يرددها طيلة حياته، ولكنه رحل من دون أن يحقق أمنيته، وها هي أرملته تأخذ على عاتقها دعوة اللبنانيين إلى إعادة اكتشاف فن مسره من خلال معرض استعادي له في بيروت.

منذ معارضه الأولى في عام 1962 ولغاية 1978، صنع روبير مسرّه مسيرة فنية مهمة في لبنان في عصر كانت فيه الثقافة في أوج ازدهارها وبيروت عاصمة الفكر والفن في العالم العربي. عرضت لوحاته في صالات عرض مختلفة، فأعجب بها الجمهور والنقاد والمثقفون. لكن هذا العصر الذهبي سرعان ما تلاشى مع اندلاع الحرب في لبنان سنة 1975، فتلاشت معها أحلام روبير مسرّه وطموحاته، واختار مكرهاً التوجه إلى باريس وهناك أكمل مشروعه التشكيلي وأقام سلسلة من المعارض حققت له انتشاراً عالمياً واقتنت لوحاته مؤسسات ومجموعات عالمية وخاصة.

Ad

معنى ورسالة

حول المعرض الاستعادي، يوضح د. أنطوان مسرة (عضو في المجلس الدستوري اللبناني) أن لوحات شقيقه روبير مسره ليست مجرد زخارف، بل تحمل كل لوحة معنى ورسالة، إذ تشهد على تمجيد الحالة الإنسانية وعلى معاناتها في الوقت نفسه. تمجيد الحب، واللقاء، والتعلق بالأرض، والهوية، والانتماء، والجذور، والعواطف المتناقضة... أما المعاناة فتتمحور حول مآسي الحرب وهاجس الموت ومشاهد تجمعات الناس على الشواطئ اللبنانية للهرب بالقوارب بعيداً عن أصوات القذائف، والبيوت المهدمة والشوارع التي يكتنفها الركام والدخان الأسود.

رغم كل هذه المآسي، لم يفقد روبير مسرّه الأمل بالحياة، فغلف لوحاته بهالة من نور استمدها من طبيعة لبنان والبحر المتوسط، يغلب عليها الأحمر والأزرق والأخضر والألوان التي تعكس الأمل بغد أفضل، بحياة يسودها السلام ومنطق العدالة.

شاعر الروح

يشكل المعرض بانوراما في عالم روبير مسره التشكيلي على مدى 50 عاماً، لقب خلالها بشاعر الروح، ابتداء من لوحاته الأولى التي رسمها وكان في السادسة عشرة من عمره من بينها «الأيتام»، وفيها يعكس الآثار السلبية للانفصال العاطفي عن الوالدين على الأولاد. تحكي هذه اللوحة قصة الرسام وشقيقه أنطوان، إذ كان في الثالثة من عمره لدى وفاة والدته وفي التاسعة لدى وفاة والده، كذلك تتناول لوحات أخرى في الفترة نفسها التمزق المأساوي والتشتت الروحي. مع ذلك حتى في اللوحات التي تبدو قلقة أو حزينة، يخترق الأحمر الذي يرمز إلى الحياة وتسيطر على ضربات الريشة ملامح من الرقة والعطش إلى المحبة والحياة وتنبض بالأحاسيس.

نزعة التصوّف

في السبعينيات ولج روبير مسرّه مرحلة جديدة في رسمه دخل فيها أكثر فأكثر إلى دائرة الروحانية والتصوّف، وركز على رسم المناظر الطبيعية والبيت اللبناني العريق وبورتريه لشخصيات مؤثرة، وقد عكست لوحاته في تلك الفترة بعداً جمالياً وصوفياً جعلها تغوص في أعماق النفس بآمالها وخيباتها وقلقها، وكأن حدسه كان ينبئه بأن شيئاً ما سيقع لهذه الأرض الجميلة وأن هذا الوطن الذي عشقه آيل إلى الانهيار، وهذا ما حدث عام 1975.

حول تلك الفترة كتب: «في عام 1969 التقيت ماري هيلين (فرنسية الجنسية) التي أصبحت زوجتي في عام 1971، فغيّر هذا اللقاء رسوماتي بالكامل، وأصبحت لوحاتي نابضة بالحياة من خلال الألوان ولعبة النور والظل. ورغم كل المعاناة التي عشتها لم أتخلّ يوماً عن الإيمان بالحياة والحب...».