قبل نحو 25 عاما، صاغ دانييل باتريك موينيهان، الأستاذ في جامعة هارفارد والذي شغل خلال حياته المهنية منصب سفير الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة وكان عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية نيويورك، عبارة "الاستهانة بالانحراف الاجتماعي"، وكان المقصود من هذه العبارة وصف اتجاه اجتماعي حيث تراجعت المعايير السلوكية بمرور الوقت إلى الحد الذي أصبح معه ما كان "لا يُطاق" ذات يوم "مقبولا" على نطاق واسع.

أتذكر عبارة موينيهان عندما أتأمل الجهود الدبلوماسية الرامية إلى حمل كوريا الشمالية على نزع سلاحها النووي، إذا يبدو من الواضح على نحو متزايد أن الأطراف المعنية، بما في ذلك الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، تخفف مطالباتها فيما يتصل بما هو متوقع من كوريا الشمالية، وبوسعنا أن نعتبر هذا "استهانة بالعمل الدبلوماسي".

Ad

وقد اتخذ كل هذا ما يزيد على مجرد مظهر الإلحاح، فقد مضى الآن أكر من أربعة أشهر على قمة سنغافورة، وهناك أحاديث عن لقاء يجمع بين الرئيس دونالد ترمب وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون مرة أخرى قريبا.

كما هي الحال دوما مع الدبلوماسية، ينشأ التساؤل حول كيفية تعريف النجاح، السلام إجابة محتملة. ومن المؤكد أن السلام يستحق بذل الجهد لإحلاله على شبه الجزيرة الكورية، نظرا للتكاليف البشرية والاقتصادية الهائلة التي قد تترتب على أي حرب.

ولكن إذا جاء تجنب الحرب سابقا في الأولوية لكل شيء آخر، فإن هذا الوضع ينطوي على خطر تقويض مصالح أخرى مهمة، وهناك أيضا خطر وضع ترتيبات من شأنها أن تخفف من حدة التوترات في الأمد القريب لكنها تهدد السلام في الأمد البعيد من خلال المطالبة بتنازلات حقيقية وقيود في مقابل وعود واحتمالات.

والآن تشير الأدلة بالفعل إلى ألا كوريا الجنوبية ولا الولايات المتحدة حريصة على مطالبة كوريا الشمالية بكشف حساب كامل عن جميع المواد والأسلحة النووية، والذي في غيابه يصبح من غير الممكن تنفيذ عملية نزع السلاح النووي والتحقق منها، ويبدو أن التخوف الأكبر هنا هو أن ترفض كوريا الشمالية هذا الطلب، مما يؤدي إلى اندلاع أزمة.

اقترحت كوريا الجنوبية، بدلا من ذلك، أنه لابد أن يكون كافيا في الوقت الحالي أن تدمر كوريا الشمالية ببساطة منشأة نووية أو أخرى، ومن جانبها توصي الولايات المتحدة بالتمسك بالصبر وتنصح المتشككين بعدم مطالبة كوريا الشمالية بالكثير قبل الأوان، وفي الحالتين نشهد الآن إحجاما عن إخضاع كوريا الشمالية لاختبار قد تفشل في اجتيازه.

في الوقت نفسه، انتهت حملة "الضغط إلى أقصى حد" فعليا، في ظل دعوات إلى تخفيف العقوبات والعزوف عن فرض العقوبات التي يفرضها العقل والمنطق، كما ألغت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية تدريبات عسكرية وخففت من وضع قواتها، على التوالي، مما خفف من الضغوط على نظام كيم، وهذا هو المقصود من الاستهانة بالدبلوماسية على وجه التحديد.

بيد أن العزوف عن الضغط على كوريا الشمالية على هذا النحو يشير إلى الخطر المتمثل بالسماح لنظام كيم ليس بالاحتفاظ بترسانته النووية فقط بل زيادتها أيضا، الواقع أن كوريا الشمالية ربما تغلق أو تدمر بعض المنشآت دون أن تنزع سلاحها النووي أبدا إذا استمرت في بناء القدرة في الوقت نفسه.

ربما يكون من المفهوم أن تقاوم كوريا الشمالية التفاوض الذي يملي عليها القيام بكل شيء قبل أن تحصل على أي شيء. وستطالب بالتعويض في هيئة تخفيف للعقوبات الاقتصادية في الأرجح، إذا كان لها أن تبدأ بإزالة أي قدرة نووية، ومن المؤكد أن الصين وروسيا ستدعمان مثل هذا الطلب، لكن مكافأة كوريا الشمالية بسخاء في مقابل تدابير جزئية تصرف من شأنه أن يقلل من الحافز الذي قد يدفعها إلى اتخاذا خطوات إضافية، ناهيك عن إتمام عملية نزع السلاح النووي.

من المؤكد أيضا أن نظام كيم يريد تجنب إرغامه على الاختيار بين التخلي عن برامجه النووية والصاروخية، التي يرى أنها ضرورة أساسية لضمان أمنه، وبين تحسين اقتصاده، وهو أمر ضروري لضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي، كما يريد النظام الحصول على الكعكة والتهامها: الأمن المستمر والرخاء المتزايد.

كانت كوريا الشمالية تمارس الضغوط من أجل إعلان نهاية الحرب، وهو تصريح طموح من شأنه أن يشير إلى رغبة مشتركة في الاستعاضة عن الهدنة التي ظلت قائمة منذ نهاية الحرب الكورية قبل 65 عاما بمعاهدة سلام رسمية. ومرة أخرى، ينشأ السؤال حول ما قد تطالب به كوريا الشمالية في المقابل. وبالفعل أدى تعليق التجارب النووية والصاروخية إلى إنهاء التدريبات العسكرية الأميركية الكورية الجنوبية الضخمة، ومن المرجح أن تطلب كوريا الشمالية عند مرحلة ما خفض مستويات القوات الأميركية في كوريا الجنوبية.

يرتبط هذا الخطر بالتركيز على نزع السلاح النووي، ويشكل تحقيق هذا الأمر أولوية مفهومة من منظور الولايات المتحدة، ولكن لابد أن تكون كوريا الجنوبية قلقة بالقدر نفسه، إن لم يكن أكثر، إزاء قوات كوريا الشمالية العسكرية غير النووية أو التقليدية التي تهدد سيول، التي يقطنها نحو 20% من سكان كوريا الجنوبية. ومكمن الخطر هنا هو أن تتسبب الأولويات المتباينة في إحداث الانقسام بين الحليفين، الأمر الذي لن يستفيد منه أحد غير كوريا الشمالية.

على الرغم من تغريدات ترمب وتصريحاته، فإن نزع السلاح النووي ليس حقيقة وليس حدثا مؤكدا، بل على العكس من ذلك، يبقى نزع السلاح هدفا بعيد المنال وغير مرجح، ويتمثل التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في تقريب هذا الهدف دون انقسام.

أفضل طريقة لتحقيق هذه الغاية هي من خلال التشاور الوثيق، والالتزام بتفادي مفاجأة أي من الحليفين للآخر أو الدخول في صفقات منفصلة، وصياغة اتفاق شامل حول ما ينبغي تحقيقه من خلال العمل الدبلوماسي وماذا قد يكون مطلوبا في المقابل. ولابد من الإبقاء على التدريبات العسكرية والعقوبات الاقتصادية القائمة، إلى أن تحدث تغييرات كبيرة وكفيلة بالحد من التهديد الذي تفرضه كوريا الشمالية، وليكن هذا "تقديرا للدبلوماسية حق قدرها".

* ريتشارد ن. هاس

* رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان: "عالَم في فوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام القديم".

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»