فاز بطل الكريكت الباكستاني عمران خان في الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في باكستان في الصيف الماضي وأصبح رئيساً للوزراء في ذلك البلد، ولكن قلة فقط من المواطنين والمراقبين كانوا يعلمون أن عمران خان حقق ذلك الفوز عبر دعم الجيش المؤيد للصين أو أنه وعد بانسحاب بلاده من «الحرب على الإرهاب»، ناهيك عن أنه يواجه الآن إمكانية انهيار مالي، وتشير واحدة من الصور الكاركاتيرية إلى خان بوصفه نسخة أكثر سمرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.ويعني تأثير ترامب أن الولايات المتحدة تفقد الظهور الجيوسياسي في شتى أنحاء العالم، وأنا لم أشعر بهذا الوضع في أي مكان أكثر مما لمسته في باكستان عندما ذهبت لإجراء مقابلة مع المرشح للانتخبات عمران خان في شهر أكتوبر، ومعروف أن خان شخصية مشهورة ويتعلق بمظهره وبشهوة الحكم كما أنه يوفر لمحة عن عالم ما بعد أميركا الذي يعكس مرحلة فوضوية، حيث يتعرض الرجال الأقوياء إلى ضربات عنيفة على يد قوى غربية وعربية وصينية.
هذه كانت باكستان التي قال خان إنها يجب أن ترفض القوة الأميركية، وفي سبعينيات القرن الماضي عندما حاول رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو– وفشل– في إبعاد بلاده عن الكتلة الغربية ومضى إلى حد ارتداء قبعة ماوتسي تونغ ووعد بقيام «اشتراكية إسلامية» لم تكن هناك دولة آسيوية عملاقة لتدعمه أو تؤيد مواقفه السياسية.
العولمة العربية
وفي وسع المرء رؤية العولمة العربية بشكل واقعي في مطار جناح الدولي في كراتشي، حيث يتوجه الآلاف من العمال المهاجرين يومياً إلى دبي وأبو ظبي والرياض للعمل والمئات من الأئمة يأتون من المملكة العربية السعودية، ولكن سيكون من الخطأ التفكير في أن الغرب فقد حضوره ودوره، وتحسنت الكفاءة الانكليزية خلال عمر خان في باكستان، وهو أمر لا يشير الى أن باكستان في وضع جيد. وقد حاول خان– كمرشح– معالجة إحباطات بلاده عن طريق اختيار مسار بين شريحة واسعة من آفاق المستقبل الغربية والآسيوية، كما أنه وعد باتباع «النموذج الصيني» و»دولة رعاية إسلامية» و»أسلوب بريطاني» في الضمان الاجتماعي، فيما وعد بالاستغناء عن المساعدات الأميركية «التي تستعبد البلاد».ولكن الأمر يتطلب وقتاً طويلاً من خان للوصول الى هذه الشخصية الشعبوية التي برهنت قدرتها على كسب دعم الشعب الباكستاني.وكان خان قال لي عن نفسه عندما التقيته في شهر أكتوبر الماضي «قد أكون الشخصية الأكثر شهرة في تاريخ باكستان، وهذه ليست مباهاة مجردة».وفي وسع الأميركيين استيعاب شهرة خان في باكستان عبر تخيله على شكل دونالد ترامب ومايكل جوردان في صورة مشتركة لنجم بارز.ومثل شخصية مثيرة للفتنة وشعبوية في الغرب ترشح خان لرئاسة الوزراء في باكستان ضمن حملة معارضة للنخبة (على الرغم من كونه طبعاً أحد أفراد النخبة في بلاده)، وقد وصف تلك الشريحة على أنها «مافيا فساد»، مشيراً الى أنها عملت على «إذلال الشعب الباكستاني». ومثل الشعبوي المثير للفتنة في الغرب كانت خطته بالنسبة الى باكستان يصعب أن تميز بين اليسار واليمين، كما وعد بالعمل على خفض الإنفاق الاجتماعي والقضاء على الفساد.السياسة الأميركية
وأوجز خان سياسته الخارجية بعد مرحلة السياسة الأميركية بالقول إنها بسيطة للغاية، وهي تتمثل في عدم وجود مساعدة عسكرية أميركية، ولا هجمات من جانب طائرات من دون طيار أو حروب بالوكالة.ويعتقد خان أن الثمن الذي دفعته باكستان من أجل دورها كحليف رئيس من خارج حلف شمال الأطلسي «في الحرب على الإرهاب» كان باهظاً، وأن الخطوط المباشرة مع الرئيس الأميركي والعشرات من طائرات إف 16 وصفقات المساعدات العسكرية الأميركية من البنتاغون لم تكن تستحق ما وصفه خان بـ»مليارات ومليارات الأضرار» التي حدثت.وقال إن التحول الى «دولة جبهة أمامية» بالنسبة الى الولايات المتحدة في أفغانستان «كان أسوأ عمل قمنا به إزاء مجتمعنا، فقد قمنا بإذكاء العنف المسلح والإدمان على الهيروين والتطرف الديني».وأعلن خان أن باكستان لن تكون واحدة من الدول «الزبائن» في عهده، وأنها ستنأى بنفسها عن ظاهرة المساعدات، وبالتالي فإنها ستتوقف عن «خوض حروب الآخرين»، كما هي الحال مع حركة طالبان. وشدد على ضرورة إنهاء عمليات الطائرات المسيرة وعلى احترام الولايات المتحدة لسيادة باكستان والتوقف عن القيام بعمليات عسكرية فيها.وقال لي إن الحل الوحيد في أفغانستان هو الذي سيقر بشكل رسمي نهاية الهيمنة الأميركية من خلال إشراك الدول المنافسة لواشنطن في التسوية، وأكد خان أن «السلام لن يتحقق في أفغانستان إلا إذا جلست كل جاراتها– إيران وروسيا والصين وباكستان إضافة الى الولايات المتحدة- إلى طاولة مفاوضات وتوصلت إلى تسوية للنزاع في ذلك البلد».عميل المؤسسة
يذكر أن خان قد اتهم منذ زمن بعيد بأنه أداة في يد شبكة باكستان الخفية من الجنرالات والقضاة ورؤساء الاستخبارات المعروفة باسم «المؤسسة»، وقد اعترف لي بأنه لا يؤيد أي عمل خطأ قام به الجيش الباكستاني.وبحسب خان لم يكن أي تواطؤ من جانبه مع الجيش بل مشاركة قيم: ومثل خان كان الجيش يريد وضع الصين أولاً ومعاقبة الطبقة السياسية القديمة والابتعاد عن الولايات المتحدة.وبعد فوز خان في شهر يوليو شجب مراقبون من الاتحاد الأوروبي ما وصفوه بـ»المحاولات المنهجية الرامية إلى تقويض الحزب الحاكم»، وقد استخف حزب التحريك والإنصاف الفائز بالاتهامات التي زعمت أن الجيش هو الذي يختار الرابحين والخاسرين، كما أن خان يعتقد أنه لم يعد مضطراً الى التقيد بالقواعد الغربية. وعلى أي حال وجد خان بعد فوزه أن الغرب لا يمكن الاستغناء عنه رغم كل شيء.أزمة ميزان المدفوعات
وبعد أداء خان اليمين الدستورية رئيساً لوزراء باكستان في شهر أغسطس كانت البلاد في خضم أزمة ميزان مدفوعات مستمرة منذ عدة شهور على الأقل.وكان هناك العديد من العوامل وراء هذه الأزمة، وفي المقام الأول فإن باكستان تستورد أكثر مما تصدر وقد جعلها عجز ميزانها التجاري الكبير عرضة لعواقب ضخمة ومؤثرة. وفي فصل الصيف الماضي بدأت أسعار النفط بالارتفاع كما قرر مجلس الاحتياط الفدرالي في الولايات المتحدة رفع معدلات الفائدة، وهو ما جعل عوائد الأموال لدى الأسواق الناشئة في وضع أفضل إذا انتقلت الى الولايات المتحدة، وفي المقابل انخفضت العملة الباكستانية وبدأت إسلام آباد باستهلاك احتياطياتها خاصة، وأنها كانت تقترض من أجل شراء الآلات من بكين لدفع نصيبها من مشاريع مبادرة الحزام والطريق وهو ما ضاعف من سوء الوضع فيها الى حد كبير.وأفضت العوامل الجيوسياسية الجديدة في آسيا الى زيادة التشدد في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال فقد أعلنت وزارة الدفاع الأميركية في شهر سبتمبر الماضي أنها قررت إلغاء مساعدة الى باكستان بقيمة 300 مليون دولار بسبب ضعف أدائها ضد ميليشات مرتبطة بحركة طالبان في ذلك البلد. وقد سعت حكومة خان الى الحصول على حزمة إنقاذ من الصين، لكن بكين عرضت تمويلا قصير الأجل فقط ورفضت تأدية دور مقرض الملاذ الأخير، واختارت بدلاً من ذلك أن تترك قروضها تقوم بدور فخ ديون، ثم توجه خان الى المملكة العربية السعودية بهدف الحصول على قرض لكنه عاد خالي الوفاض.صندوق النقد الدولي
وأخيراً حاولت حكومة خان في شهر أكتوبر الحصول على حزمة إنقاذ أخرى من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار، لكن وزير الخارجية الأميركي أوضح أن ذلك سيتم وفقاً لمجموعة من الشروط، منها أن ذلك القرض لن يستخدم لتسديد ديون الى بكين، كما يتعين على باكستان أيضاً مشاركة صندوق النقد الدولي في تفاصيل ديون الصين السرية الى باكستان.وهكذا فإن ميزان القوة في اسلام آباد أصبح واضحاً الآن: القوة الأميركية السياسية تتراجع لكن الدولار لم يضعف، وقد تكون الصين صاعدة بسرعة لكنها ليست نداً للمؤسسات المالية الغربية، وليست مستعدة لإملاء تمويل الى باكستان مثل صندوق النقد الدولي.من جهة أخرى، تظهر باكستان ما ستكون عليه الحال بعد انتهاء الهيمنة الأميركية، وستصبح الموديلات السياسية والاقتصادية المختلفة– لا الغربية فقط– مرغوبة من جانب النخبة، وستتنافس الولايات المتحدة والصين مع فرض تأثيرات كبيرة على الفور، ولن يتم نقل هيمنة دولة الى دولة أخرى.