كان ملك بلاد فارس كسرى يرى أن العزيمة هي الأساس الذي تقوم عليه الانجازات الكبرى في تاريخ الأمم، وقال قبل غزوه اليونان للمرة الثانية إن المرء «اذا أراد الالتفات الى كل الأشياء فإنه لن يتمكن من القيام بأي عمل»... وبحسب وجهة نظره فمن الأفضل محاولة عمل شيء ما بدلاً من الاحجام عن ذلك وعدم تحقيق أي حصيلة.وكان ذلك الرجل القوي في زمانه يعتقد أن الانجازات الكبيرة في نهاية المطاف إنما تتحقق من خلال «خوض غمار الأخطار الكبيرة «، ولكن فشله في حملته على اليونان أفضى إلى صعود أثينا وسجل بداية نهاية أول امبراطورية عالمية.
ويشير الكثير من الكلام المعاصر المتعلق بمحاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب القيام بحملات سيئة التوجيه كما فعل كسرى الى أنه انما يرسم نهاية هيمنة الولايات المتحدة بهذه الطريقة، ومن قبيل الانصاف فإن سيد البيت الأبيض يشبه كسرى في البعض من الوجوه. ومن هذه السمات، على سبيل المثال، الاعتقاد بصحة نظريته في ما يتعلق بكل مايقول.وفي حالة ترامب، تتمحور «النظرية المركزية الواحدة» حول الفوز والهيمنة على المنافسين والخصوم. ومثل قائد لأقوى دولة في العالم في عالم فوضوي من دون سلطة مركزية فإن هذا يعني من دون أي شك هيمنة عالمية، ولكن المشكلة هنا، كما يقول جون غاديس محذراً تكمن في أن القوة الجامحة تواكبها مسؤولية مماثلة تنطوي أيضاً على القيام بتصرفات حمقاء.التأثير الايجابي الأول في طريقة «القنفذ» غير التقليدية التي يحرص الرئيس ترامب على تطبيقها في ما يتعلق بالسياسات العالمية – وخاصة في آسيا – هي كونها مرتبطة بالصين. وعلى أي حال فإن الرئيس ترامب أوجد حتى الآن هامشاً أقصى من عدم امكانية التنبؤ بقراراته والتي أقلقت بدورها القيادة السياسية في بكين، وفي حقيقة الأمر فإن القيادة الصينية قد «تذمرت» بشكل علني من الاشارات «المشوشة والمربكة» من جانب البيت الأبيض وهو ما عكس شعور بكين المتزايد بقابلية التعرض واليأس من سير الأمور في الاتجاه الصحيح.ومع طرح الرئيس ترامب لمستويات غير متوقعة من عدم التنبؤ في الصورة فقد اضطرت القيادة الصينية الى العودة الى نقطة الانطلاق في علاقاتها مع الولايات المتحدة. وهذه القيادة التي اعتادت منذ زمن بعيد على أسلوب «الثعلب» من جانب الادارة الأميركية – وخاصة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما الذي اشتهر بالتفكير الطويل في كل خطوة يتخذها الى حد يبدو معه غير حاسم في أغلب الأحيان تمكنت من التخمين بصورة صحيحة ازاء قرارات واشنطن الاستراتيجية.وكانت هذه هي الحالة في بحر الصين الجنوبي على وجه التحديد حيث تقدم الرئيس الصيني شي جينغ بينغ منذ سنة 2013 في المطالبة بقوة وعبر عسكرة الأرض موضع النزاع معتمداً على افتراضات صحيحة بأن ادارة الرئيس باراك أوباما التي تتوخى الحذر دائماً لن تجازف بتصعيد عسكري عبر رسم حدود مياه في تلك المنطقة. وقبل ذلك بعام واحد توقعت الصين عدم قيام الولايات المتحدة بإجراء عندما أخرجت بكين الفلبين – وهي حليفة معاهدة مع واشنطن – سكاربرو شول بعد شهر من المواجهة البحرية بين مانيلا وبكين.وعلى أي حال، وفي عهد الرئيس ترامب أظهرت واشنطن عزيمة متصاعدة لمواجهة الصين في المياه المجاورة وحثت البنتاغون على اجراء المزيد من العمليات البحرية العدوانية في بحر الصين الجنوبي، ولم تقتصر جهود الادارة الأميركية على رفع الاجراءات العسكرية المضادة في مواجهة الصين بل انها عمدت – على الرغم من التقارب الشخصي بين ترامب وشي – الى تصعيد الحرب التجارية مع الصين بشكل لم تتوقعه إلا القليل.وحتى الوقت الراهن، تخضع منتجات صينية تصل قيمتها الى 250 مليار دولار لتعرفة عقابية فيما تم وضع قيود أميركية أكثر شدة على الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة اضافة الى صادرات تقنية الى الصين. ويعتقد البعض من المراقبين أن ادارة ترامب تسعى الى فصل بكين عن سلاسل الامداد العالمية وإرغام الشركات الغربية على نقل عملياتها الى دول آسيوية صديقة مثل فيتنام.
حسابات بكين
وتجدر الإشارة إلى أن الصين كانت تحسب حتى وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة أن التاريخ يعمل لصالحها نظراً لأن الوقت يجعلها أكثر قوة بالمقارنة مع الولايات المتحدة التي بدت، بعد زيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون الى الصين، أكثر عزماً على الحفاظ على العلاقات الاقتصادية الحيوية وليس على احتواء طموحات بكين. وتسعى دول مثل كوريا الشمالية في الوقت الراهن الى الاستفادة من التحولات الاستراتيجية الجديدة عن طريق التقارب مع الولايات المتحدة من أجل احياء اقتصادها المتداعي وخفض اعتمادها المتزايد على بكين.وكما أبلغني أحد المسؤولين في كوريا الشمالية وبلغة انكليزية ضعيفة، خلال زيارة قمت بها الى العاصمة بيونغ يانغ في شهر أبريل الماضي «مع بعض الرؤساء الأميركيين يتعين عليك اتخاذ قراراتك بسرعة»، وبكلمات اخرى فإن انفتاح كوريا الشمالية المتجدد على مفاوضات السلام يحمل وعداً بتغيير المعالم الجيوسياسية الاقليمية، وربما السماح للولايات المتحدة وللدول الحليفة لها لنقل الاهتمام الحيوي الى مراكز اخرى وخاصة في بحر الصين الجنوبي والشرقي في سياق هذه العملية.وعلى أي حال، فإن قيادة ترامب المشوشة قد أجبرت بعض قوى الوسط على تسريع خطواتها الدفاعية، وفي العام الماضي عززت كل القوى البحرية الرئيسية من اليابان الى كوريا الجنوبية وأستراليا وبريطانيا وفرنسا حضورها الاستراتيجي في خطوط الاتصالات البحرية الحيوية في منطقة الهند – المحيط الهادئ، وعمدت حتى الى اجراء مناوراتها على مقربة من الجزر الصينية المحتلة في بحر الصين الجنوبي.مخاوف الهند
وعمدت الهند التي تشتهر بمبادئ عدم الانحياز الى تحديث تعاونها البحري مع دول تتبع سياسة مماثلة وذلك نتيجة مخاوف نيودلهي من الزيادة السريعة في القدرات الملاحية الصينية وطموحاتها البحرية. وكما أوضح رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي في سنغافورة في شهر يونيو الماضي فإن مستقبل آسيا ينطوي على أهمية استراتيجية في فترة ما بعد الوجود الأميركي ولكن ليس بالضرورة أن يخضع لهيمنة الصين نظراً لأن قوى الوسط مستعدة للاسهام في حفظ الأمن والنظام في منطقة الهند – المحيط الهادئ.وفي حقيقة الأمر فإن قوى الوسط كانت تعارض أيضاً سياسة الرئيس ترامب الحمائية التجارية واقتصاد الصين الجشع بما في ذلك دبلوماسيتها في استغلال الديون وذلك من خلال الدفع نحو مبادرات استثمار مستدامة في البنية التحتية واتفاقات تجارية حرة كبرى متعددة الجنسية – وخاصة تلك التي تصدرتها اليابان واندونيسيا ودول جمعية جنوب شرق آسيا. ومن جهة اخرى توصلت اليابان والاتحاد الأوروبي الى أكبر اتفاقات تجارية ثنائية في العالم في محاولة للحد من تداعيات سياسة ترامب الحمائية.ومنذ سنة 2013 أبرز الخبيران في شؤون «دبلوماسية الدول المتوسطة» وهما روري مدكالف وراجا موهان الصعود اللافت للهند واليابان واندونيسيا وأستراليا التي حققت معاً نسبة تعادل ما حققته الصين في الناتج المحلي الاجمالي وعدد السكان الانفاق الدفاعي – وربما تتجاوز بكين في السنوات المقبلة – وخاصة مع استمرار الهند واندونيسيا في ميادين الازدهار الاقتصادي والانفاق الدفاعي.الدور الأوروبي
مع انضمام فرنسا وبريطانيا الى الحملة البحرية ضد الصين أصبحت الدول المتوسطة في موقع أفضل من أجل احتواء طموحات بكين بغض النظر عن عرض القوة الأميركية في آسيا.وهكذا أثبتت سياسة الرئيس ترامب وعدم التعويل على الولايات المتحدة دورهما في شكل حوافز لتقدُّم أوسع للقوى المتوسطة، كما أن قيادة ترامب لا تزال غارقة «في أخطار كبيرة»، ولكنها دفعت في الوقت الراهن على الأقل إلى تغيير الوضع الجيوسياسي بطرق عديدة لم تكن محتملة من قبل، وهنا يكمن التناقض في رئاسة ترامب.