خرجت الجماهير من ذاك البلد البعيد في أميركا اللاتينية أو الجنوبية، رحلوا بالآلاف يرددون سنترك البلد لكم ونرحل، لم نعد نحتملكم فإما نحن أو خذوا البلد وسنرحل نحن إلى بقاع الكون، وقفوا عند الحدود المرسومة بعناية المستعمر الجديد الذي وصفهم بكل أصناف الجرم وشبّههم بدود الأرض! ألا تخافون أن تنتقل تلك العدوى فتقوم شعوبكم الممتدة من البحر إلى النهر إلى المحيط بالزحف خارج الحدود المصطنعة من "سايكس بيكو" حتى آخر ضابط إنكليزي مخور يسير في صحارى الجزيرة يرسم خطاً فوق الرمل فتصبح دولة!
سيخرجون هم أيضاً وهذه المرة ليس للميادين، بل ربما إلى خارج الأرض كلها، وكأنهم كإخوتهم في الجنوب الأميركي قد تعبوا من الفاسدين والظالمين والمغتصبين والقتلة، أليس قطع الأرزاق ونحر الكرامة قتلاً أيضاً؟! سيرحلون ربما يوماً ويقتاتون على عشب الأرض حتى يقطفوا آخر ورقة من آخر شجرة صمدت من بعد جفاف كانوا هم أيضاً سببه، فلم يتركوا البشر ولا الشجر ولا البحر ولا الأنهار ولا الآبار. لقد مروا بها جميعا كلما أضافوا صفراً جديداً أمام حساباتهم البنكية أو خزنوا الملايين في بنوك المدن المسترخية في حضن البحيرات والجبال المرتدية البياض الناصع، كلما فعلوا ذلك قالوا هل من مزيد؟ فكان أن لم يتبق سوى هو. بعض مدخرات بسيطة لأولئك الباقين على هامش الهامش من الحياة، وقفوا هناك طويلاً، اقتسموا رغيف الخبز، واستغنوا عن قطعة اللحمة المستوردة، ومن بعدها استعصت الأسماك التي كانت تملأ بحارهم وأنهارهم. لم يعد أمامهم إلا أن يعودوا إلى خبز التنور إن حصل قبل أن يصل له أصحاب الأصفار المصطفة أمام الحسابات البنكية المتعددة!غمسوا الخبز في "الباجلا" أو الفول وحبسوا جوعهم، بعضهم سقط سهواً ككل ضحايا الغلاء في شرك القروض البنكية المسهلة، وآخرون قالوا "ابعد عن الشر". لم يغنّوا له طويلا فلم تتركهم تلك الشلة الصغيرة من الطفيليين زحفت حتى آخر فلس بقي لهم، فهم يسيرون على المثل "الفلس الأبيض في اليوم الأسود". كثرت الأيام السوداء وعض الجميع على جوعه وعطشه وانتهاكات كرامته والذل المغمس بالمكرمات، ولم يكتف الصعاليك أليس هذا هو زمنهم؟ فزحفوا أكثر كلما سكتوا وشكروا واسترحموا وتوسلوا إلى خالقهم وأكثروا من الصلوات والعبادة، وتأمل ما يحدث لهم وحولهم، زحف أولئك أكثر، فالأرض وما عليها والبحر وما فيه من خيرات والسماء أيضاً كلها لهم. شحبت الوجوه من قلة الكرامة لا من الجوع، وزاد الطين بلة أن محطاتهم وقنواتهم وإعلامهم يزيد من استفزاز تلك الأرواح المتعبة بالأغاني والاحتفالات والتشدق بالاقتراب من الأخ الأكبر، واستفاق الجميع ذات صباح احتجبت فيه الشمس خلف الغيوم السوداء خجلا منهم أو من أفعالهم أو ربما حداداً أو احتجاجاً!! استفاقوا على افتتاحيات نشرات الأخبار في محطاتهم "العتيدة" على صور لاستقبالات لسياسيين وفرق رياضية من أرض الطهارة التي تغتصب كل يوم أمام أعينهم أيضاً من قبل هؤلاء الزوار المكرمين نفسهم، أسقوهم القهوة المعطرة بالهال ونثروا عليهم العطور العربية وحرقوا البخور، بل ألبسوا تلك الحاقدة المغتصبة حجابهم!! تذكر البعض أجداده وترحّم عليهم، أما آخرون فتساقط الدمع الساخن وهم يقرؤون الفاتحة على مقابر رجال وقفوا يوما نصرة لأرض الحق فلسطين، وقدموا التضحيات حتى آخر قطرة دم، هم يخرجون من قبورهم ليعروا الحاضرين الآن الواقفين على المنابر والفخورين بالحديث عن الواقعية وإصلاح أخطاء التاريخ من البعد عن القومية "الرجعية بل المتخلفة" إلى التنكيل باليسارية، ورمي المتدينين بأبشع الألفاظ، في حين هم يمتطون الدين عند الضرورة لتبرير أفعالهم ويصفون رجال الدين "الأرجوزات" للدفاع عنهم، ويشهرون الدين في وجه المعارضين لهم متى شاؤوا، ويرمونهم بأوسخ الألفاظ متى شاؤوا أيضا!!هل سيذكرهم التاريخ في سرد لسقوط ممالك لم تسد بل أبيدت عن بكرة أبيها؟ وهل سيرسم اسمهم بحروف من حب في قلوب الناس أم سيوضعون تحت عنوان عريض في فصل صغير من كتاب للتاريخ يحمل وصفاً دقيقاً وهو "زمن الصعاليك"، حيث رحل الناس وأوصدوا الأبواب فتركوا الأوطان لهم بعد أن تعبت الأرض والسماء منهم وهرب البشر إلى المجهول الذي هو قد يكون أرحم عليهم!!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.
مقالات
إنه زمنهم... فلنرحل!
05-11-2018