مع دخول العقوبات الأميركية على إيران، وخصوصاً في قطاعها النفطي، حيّز التنفيذ، بدأ ما يعرف بلعبة عض الأصابع بين الطرفين، وهي لعبة يتقابل فيها شخصان، بحيث يضع كل منهما إصبعه في فم الآخر، ويبدآن العض معاً، ويكتم كلاهما صرخته، لأن من يصرخ أولاً يعد هو الخاسر.بالضبط هذا ما يحدث بين إيران وأميركا، وكل منهما يراهن على صرخة الآخر أولاً في سبيل تسجيل مكاسب اقتصادية، وأخرى سياسية أكثر أهمية منها، ويعلو عنوانها إعادة صياغة الاتفاق النووي الإيراني الموقع عام 2015، والذي انسحب منه الرئيس ترامب في شهر مايو الماضي مع تشديد وإعادة فرض عقوبات اقتصادية على طهران، أهمها بلوغ صادرات نفطها إلى العالم الصفر، ومنع تعاملاتها التجارية بالدولار أو تحويلاتها المالية بالريال «التومان»، إلى جانب وقف تعاملات المؤسسات الأجنبية مع البنك المركزي الإيراني، فضلاً عن إدراج أسماء أكثر من 700 فرد وكيان وسفن وطائرات على قائمة العقوبات بما في ذلك بنوك ومصدرو النفط وشركات الشحن.
بدايتها استثناءات
وتفاصيل العقوبات كثيرة إلا أن تعقيداتها للطرفين أكثر، فلم تكد العقوبات تدخل حيز التنفيذ حتى خففت الولايات المتحدة قيودها على إيران، وأهم هذه الإجراءات تمثل في استثناء 8 دول من عقوبات استيراد النفط الإيراني مدة 180 يوماً، تشكل 75 من المئة من دول استيراد النفط الايراني، بإجمالي تصدير يصل إلى 1.1 مليون برميل يومياً، أي 55 في المئة من إجمالي الصادرات الإيرانية تقريباً، مما أدى خلافاً للمتوقع إلى انخفاض أسعار النفط عالمياً بدلاً من ارتفاعها، لأن الاستثناءات النفطية جعلت العقوبات أقل تأثيراً، ولا تزيد على تلك التي كانت مطبقة على إيران قبل توقع الاتفاق النووي عام 2015.ومع الأخذ بعين الاعتبار أن بلوغ صادرات إيران إلى الصفر سيعني إلغاء أكثر من مليونَي برميل يومياً من السوق مما سيسبب أثراً سلبياً على سوق النفط بشكل عام، وخصوصاً المستهلكين، فضلاً عن الولايات المتحدة تحديداً، لأن الرئيس ترامب جعل خفض أسعار النفط العالمية هدفاً جوهرياً لسياساته، وشدد على دول الخليج في مسألة رفع إنتاجها النفطي لتلافي آثار خفض الإنتاج من دول «أوبك» وخارجها، مع التصريح لا التلميح بأن أمن المنطقة مرتبط بأسعار الطاقة، فإن توقعات ارتفاع الأسعار وزيادة حساسية السوق لأي حادث عرضي على مستوى الإنتاج ستكون هزيمة لسياسات ترامب، وإن ألحقت الضرر باقتصاد إيران أو حتى سياساتها.ضغوطات على إيران
في المقابل، فإن مهلة الـ 180 يوماً من الإعفاءات لمستهلكي النفط الإيراني، وإن كانت تعطي بعض الفسحة لطهران، فهي تحرمها أيضاً من 45 في المئة من إنتاجها مع الأخذ بعين الاعتبار توجه العديد من المنتجين من «أوبك» وخارجها لتعويض تدريجي لاحتياجات السوق خلال الأشهر الـ 6 القادمة، وهي مدة كافية لخفض درجة كبيرة من حساسية السوق تجاه العقوبات، فضلاً عن أن الأوضاع الاقتصادية في إيران ليست على ما يرام، إذ تتنامى معدلات الفقر والبطالة والتضخم، إلى جانب العنصر الأهم في المعادلة، وهو الانهيار القوي في سعر صرف الريال الإيراني هذا العام.فمنذ أبريل الماضي أدت الصعوبات المالية في البنوك الإيرانية والطلب المكثف على الدولار بين الإيرانيين والمخاوف المتصاعدة من العقوبات إلى تدهور حاد في سعر صرف العملة المحلية من 42 ألف ريال مقابل الدولار في نهاية العام الماضي إلى 57 ألفاً في نهاية شهر أبريل الماضي وصولاً إلى 150 ألفاً هذا الأسبوع، بكل ما تحمله هذه الأرقام من ضغوط تضخمية وآثار اجتماعية واقتصادية على الحياة المعيشية.عقوبات مشددة
والعقوبات النفطية، وإن كانت الأهم في الحزمة الأميركية، فهي ليست الوحيدة، فثمة مجموعة متنوعة من العقوبات التجارية والاستثمارية تتعلق بالتجارة والتكنولوجيا والتحويلات والاستدانة وشراء المعدات والسيارات وتشغيل الموانئ والعمليات البحرية، فضلاً عن مقاطعة شبكة سويفت لخدمة التراسل المالي البنوك الإيرانية، وهذه كلها يمكن أن تجعل الصرخة في إيران كبيرة، وتمس جوهر النظام الحاكم في طهران، وليس مجرد إجراء تغيير في المواقف الخاصة بالاتفاق النووي على اعتبار أن التردي الاقتصادي عامل أساسي في انطلاق الثورات.فطهران وإن كانت لديها خبرة سابقة في التعامل مع ضغوطات العقوبات والعلاقات المتوترة مع الغرب منذ نحو 40 عاماً، فإنها هذه المرة تواجه درجة لم تواجهها من قبل من حيث التشدد في التطبيق... الذي يمتلك خيارات متاحة على المدى المتوسط في زيادة درجة الشدة.رهان على «الأوروبي»
وبين الرهان المتبادل على صرخة أحد الطرفين، يبرز الموقف الأوروبي المتذبذب في الحصول على درجة ما من الاستقطاب، إذ أصدر الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا بياناً أسف فيه لفرض العقوبات على إيران، ومع ذلك أعلن التزامه بتطبيقها مع إيجاد وسائل لحماية الشركات الأوروبية التي ترتبط بتعاملات تجارية مع طهران، وبالطبع سيسعى الإيرانيون والأميركان إلى كسب «الأوروبي» إلى جانبهم، لدفع الطرف الآخر إلى التسليم أولاً.غير أنه لا يزال من المبكر حسم مسألة مستقبل العقوبات، ومَن سيتمكن من تحقيق مكاسب على الآخر، كما أنه من المبكر أيضاً توقع آثار «صرخة عض الأصابع»، إن كانت ستنحصر بين أحد الطرفين «إيران وأميركا»، أو كليهما، أم أن الأمر سينعكس على ساحة اللعب، وأهونها في هذه الحالة الآثار المترتبة على نزاعهما في سوق النفط.