تحل في نوفمبر الجاري الذكرى المئوية لنهاية ما كان يدعى «حرب انهاء كل الحروب» بين القوى العظمى في مطلع القرن العشرين، وقد تبين طبعاً أن تلك الحرب لم تحقق هدفها المرجو على الاطلاق، وبسبب سلسلة من الكوارث غير المقصودة التي أعقبتها وقعت حروب جديدة وأعيد رسم حدود جيوسياسية للعالم ثلاث مرات منذ ذلك الوقت.وعندما تنظر أجيال المستقبل الى سنة 2018 قد ترى أنها السنة التي تحولت فيها العلاقات بين القوتين العظميين في القرن الحادي والعشرين – الولايات المتحدة والصين – من التعايش السلمي الى مواجهة جديدة على الرغم من عدم وضوح مسارها بشكل مؤكد.
وسوف يتعين على الولايات المتحدة والدول الحليفة لها حول العالم النظر الى عدد من الأسئلة المهمة مع قيام واشنطن بترجمة هذا التغير الأساسي في الاستراتيجة الى سياسة عملياتية. وفي المقام الأول يجب معرفة غاية الولايات المتحدة النهائية، وما هي الخطوات التي سوف تقوم بها اذا لم تكترث الصين بالمطالب التي حددها نائب الرئيس الأميركي مايك بنس في خطابه حول «اتفاق تجاري عادل ومتبادل» وانهاء سرقة «الملكية الفكرية الأميركية» وتحويل التقنية الأميركية بالقوة ومن ثم رفضها، وماذا سوف يحدث اذا لم تحقق الاستراتيجية الأميركية الجديدة الغاية المرجوة منها وأفضت بدلاً من ذلك الى نتائج عكسية تتمثل بشكل رئيسي في زيادة المبادلات التجارية والنزعة الوطنية والقتالية من جانب الصين؟ وينطوي هذا الاحتمال على جانبين: الأول أن تذعن بكين لهذه التغيرات التي تريدها واشنطن، أو أن تضاعف سياستها الحالية.ويتمثل الجانب الثاني في معرفة القواعد الجديدة لهذه اللعبة مع وجودنا في خضم منافسة استراتيجية، وكيف يمكن للولايات المتحدة التوصل الى فهم مشترك مع الصين في ما يتعلق بنوعية القواعد الجديدة؟ وهل هناك أي قواعد جديدة في الوقت الراهن تختلف عن تلك التي يمكن أن تظهر بمرور الوقت نتيجة الديناميكية العملاتية للمنافسة الاستراتيجية؟ وكيف، على سبيل المثال، سوف تتصرف الولايات المتحدة في مواجهة الحوادث الخطيرة في البحر والجو والهجمات السبرانية والانتشار النووي والمنافسة الاستراتيجية في دول ثالثة ثم شراء وبيع سندات الخزينة الأميركية ومستقبل معدلات الفائدة وميادين السياسة الرئيسية الأخرى؟
مستقبل العلاقات الثنائية
والسؤال الحيوي هو: هل توجد فرصة لقيام حوار استراتيجي بين الصين والولايات المتحدة حول مستقبل العلاقات الثنائية؟ وكيف تستطيع واشنطن وبكين في غياب القواعد الجديدة تفادي الانجراف نحو حرب باردة جديدة؟ ومن ثم الى حرب حقيقية؟وفي ما يتعلق بتفكير البعض من الاستراتيجيين الأميركيين في سياسة تغيير سياسة بلادهم ازاء الصين يقول جورج كينان الكاتب في صحيفة «لونغ تليغرام» في مقالة عن «مصادر السلوك السوفياتي» إن ذلك يتطلب قراءة متأنية، وهو يرى أن الاحتواء الملائم لموسكو سوف يفضي الى تمزقها تحت تأثير ضغوط داخلية. وهذا افتراض جريء يقول إنه في حرب باردة جديدة سوف ينهار النظام الصيني تحت تأثير تناقضاته الداخلية في حال تطبيق سياسة مماثلة، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن حجم الاقتصاد المحلي الصيني وانخراط بكين المستمر في ميدان الاقتصاد مع بقية الدول خارج العالم الأميركي ومواكبة ذلك كله لتقنيات جديدة في السيطرة السياسية يجب أن يعطي أولئك الذين يفكرون في أن الصين سوف تنهار كما كان حال الاتحاد السوفياتي فرصة لاعادة التفكير في توقعاتهم.الرأسمالية الديمقراطية
والسؤال هو:هل الرأسمالية الاستبدادية الصينية تشكل تحدياً للرأسمالية الديمقراطية كما كان الحال بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي السابق؟ لقد أقام الاتحاد السوفياتي أنظمة عميلة حول العالم شبيهة بطبيعته العقائدية. ولكن هل هناك أي أدلة على أن الصين تفعل الشيء ذاته؟ واذا كان ذلك هو ما تقوم بكين به فهل من دليل على نجاحها أو فشلها في تحقيق هذا الهدف؟ ثم هل تقوم الصين بعمل مختلف يعتمد على توسيع تأثيرها الاقتصادي العالمي يمكنها التعويل عليه في حال تعرض مصالح سياستها الخارجية للخطر؟في غضون ذلك، هل الولايات المتحدة مستعدة لبذل جهود استراتيجية معاكسة للالتزامات الصينية المالية المتمثلة في برامج الصين التي تقدر بعدة تريليونات من الدولارات – بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق وتقديم القروض والمساعدات المالية الثنائية؟ أو هل واشنطن على استعداد للاستمرار في تقليص ميزانيات المساعدة من أجل خفض حجم خدماتها الخارجية؟ ولا بد من الاشارة في هذا الصدد الى أن الولايات المتحدة سيطرت على أوروبا الغربية وانتزعتها من الاتحاد السوفياتي السابق نتيجة طرحها لخطة مارشال، وهي لن تتمكن من كسب منافستها الاستراتيجية مع الصين في أوراسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.من جهة اخرى، وبعيداً عن تقديم القروض والمساعدات فإن السؤال الأوسع الذي يطرح نفسه هو هل سوف تنافس الولايات المتحدة بمرور الوقت الأحجام الضخمة للصين في الميادين الاقتصادية والاستثمارية في آسيا وأوروبا؟ ثم كيف سيؤثر الغاء واشنطن لمعاهدة الشراكة عبر المحيط الهادئ على أوروبا من حيث الأهمية النسبية للولايات المتحدة كشريك في ميادين التجارة والاستثمار والتقنية مع الدول الأوروبية في المستقبل؟ ومعروف أن الصين تمثل شريكاً اقتصادياً أكبر مع آسيا وإفريقيا وبقدر يفوق دور واشنطن، ومن المحتمل أن تتخذ أوروبا وأميركا اللاتينية خطوات مماثلة على هذا الصعيد أيضاً.موقف الحلفاء
ولهذه الأسباب وغيرها كيف يمكن أن تكوّن الولايات المتحدة اضافة الى حلفائها وأصدقائها حول العالم الثقة باعتمادهم على استراتيجية واشنطن التنافسية الجديدة ضد الصين؟ وربما يقرر الكثير من حلفاء الولايات المتحدة اخفاء رهانهم والانتظار حتى تصبح الأمور واضحة بقدر أكبر ومعرفة هل التحول الأميركي سيكون دائماً وهل سينجح؟.واضافة الى ذلك ما هي الفكرة التي يمكن أن تقدمها الولايات المتحدة الى العالم من أجل دعم استراتيجيتها الجديدة على شكل بديل للهيمنة الصينية الاقليمية والعالمية؟ وكان نائب الرئيس الأميركي مايك بنس طرح بحذر دعوته المتعلقة بالأسلحة ضمن منظور المصلحة الأميركية ولكنه لم يشرح هذه الفكرة بالنسبة الى المجتمع الدولي على أساس المصالح المشتركة وتشاطر القيم التي كانت سائدة بعد الحرب العالمية الثانية. وهل ترك للعالم للاختيار بين قوتين؟وأخيراً، يتعين على خبراء الاستراتيجية في الولايات المتحدة والدول الحليفة التفكير في كيفية تأثير العلاقات الأميركية – الصينية على الاقتصاد العالمي وتصرفاته ازاء تغير المناخ في الأجل القريب، ثم إن ابتعاد الاقتصاد الأميركي بشكل جذري عن الاقتصاد الصيني يمكن أن يفضي الى انهيار التجارة الثنائية، أو اضعاف قيمتها بصورة كبيرة، وسوف يكون لهذه الهزة تأثيرها السلبي البارز على النمو الأميركي والعالمي في العام المقبل، وربما يتسبب في حدوث ركود عالمي أيضاً.وقد حذر تقرير صدر أخيراً عن الأمم المتحدة حول تغير المناخ من كارثة كونية بسبب عجز الدول التي تسبب انبعاثات الكربون الواسعة في العالم عن اتخاذ اجراءات كافية في هذا الصدد حتى الآن. ثم ماذا سوف يحدث اذا عادت الصين الى اجراءاتها الوطنية المحدودة بالنسبة الى تخفيف انبعاثات الكربون في غياب نظام دولي بيئي؟ ومعروف أن الصين ملتزمة في الوقت الراهن بالتعهدات التي قدمتها في اتفاقية باريس حول تغير المناخ، وانسحاب الولايات المتحدة من تلك الاتفاقية أضعف ذلك النظام، وقد تستخدم بكين ذلك الانسحاب الأميركي الرسمي، أو انهيار أوسع للعلاقات الأميركية الصينية، من أجل الانسحاب من تلك الاتفاقية أيضاً، وعلى الرغم من عدم اكتراث واشنطن بذلك غير أن هذا ليس موقفاً ينسحب على حلفائها.