إبداع في طياته استشراف!
كلما ازدادت الصورة "قتامة" وعلا صوت الباطل، واستشرى الفساد، وسيق الإنسان على غير إرادته إلى مصير مجهول بسبب حروب وعداوات كنا نظن أنها ذهبت مع الاستعمار القديم الذي تحكم في خيرات الأمم والشعوب الضعيفة ولا نقول الفقيرة فقط، تذكرتُ ما جاء في مسرحية غنائية للسيدة "فيروز" حملت اسم "ناطورة المفاتيح" من إبداعات الأخوين رحباني.هي صورة غريبة وحل عجيب يملكه الضعيف الذي لا حول ولا قوة له حين يقع عليه ظلم ويفقد كل رجاء في فضاء يشعره بآدميته وحريته. مَلكٌ جائر يُرهق أبناء شعبه للعمل "بالسخرة" إن لم يدفعوا ما عليهم من ضرائب ويسلط عليهم أعوانه ليمتص نتاج حصادهم، فيأتي الحرس بــ "زاد الخير" التي تقوم الرائعة فيروز بدورها إلى بلاط الملك وتقف بين يديه تجيب عن أسئلته التي لا تخلو من إذلال حين يسألها: ماذا تستطيع أن تعمل؟ فتجيبه بأنها تمسح الأرض وتطبخ الطعام، إلى أن تقول: وأغني! فتغني بانكسار: "يا ملكنا لولا بتنزل على ممالكنا... تنزل وتشوف مملكة الليل ومملكة الشمس ومملكة القمر..." كلمات توحي بقيمة الحرية والتأمل الذي يتولد منه الإبداع، وتتخلق الحلول التي تُسعد الإنسان... ثم يأمر الملك بأن تعمل في البلاط سخرة كي توفي ما عليها من ضرائب.
من العبارات التي تستوقف من يستمع إلى هذه المسرحية الغنائية ما جاء على لسان إحداهن:- دخل شو بيشتغل الملك؟ - رد"زاد الخير" كان عفوياً: الملك... بيشتغل... ملك!بعد أن يشتد الظلم على الرعية يقرر الجميع الرحيل ليبقى الملك وحيداً بلا شعب، إلا "زاد الخير" التي تقرر البقاء، لذلك تركوا مفاتيح بيوتهم معها، وهذا المشهد هو الذي استوحي منه اسم الأوبريت المسرحي الذي تتطابق مشاهده مع ما يحدث في كثير من البلاد اليوم.الأكثر إثارة ما جاء في الفصل الأخير من المسرحية، حيث حوار الند للند، بين الملك وزاد الخير! الملك وحده والرعية شخص واحد هي "زاد الخير".- الملك: كيف حال الرعية اليوم؟ - زاد الخير: ضجرانة - الملك: اطلعي حتي نتسللى - زاد الخير: لا أنت انزل- الملك: الملك ما ينزل- زاد الخير: الشعب موش راح يطلع.... حتى يصل الحوار إلى ذروته..- الملك: وآخرتها معاك بدي أعرف مين الملك أنا.. أم أنت؟- زاد الخير: المحابيس اللي فلتهم هربوا. - الملك: عارف عارف.. ما في غير وجهي وجهك.- الملك: ما يصير مملكة بلا ملك.- زاد الخير: وما يصير ملك بلا شعب... ثم تشتد المواجهة... - الملك: هـُم فلوا من أجل أن يسقطوني... لكن أنا اجتزت الأزمة وبقيت. - زاد الخير: أنت بقيت لأن أنا بقيت! لكن هلا أنا بقول لــ حالي إذ راح أظل... انت راح تظل ويكون اللي راحوا... راحوا بلا تمن، عشان هيك راح ألبس فقري وتعاستي، وأتوج حالي بالأعشاب البرية وأتمشى باحتفال تحت زينة الشجر وقبة السما، صوب أرض جديدة أتمشى، وكل ما أبعد مسافة، عرشك يغرق شبر، حتى توصل أنت إلى الأرض، وأوصل أنـا إلى الـحريـة. من العوامل المؤكدة أن نجاح أي عمل إبداعي يزداد قيمة حين يحمل في طياته استشرافاً لما هو آتٍ. هذه المسرحية الغنائية التي صنعها مبدعوها منذ أواحر السبعينيات من القرن الماضي كأنها كانت تقرأ حاضرنا أينما يممنا وجوهنا! * كاتب فلسطيني - كندا