«الممرضة التونسية»
"الممرضة التونسية"... رواية من تأليف كارلس ماكراخ اي بروخا، محام إسباني مؤسس ورئيس الجمعية الإنسانية "ليبر برس"، التي توزع كل سنة جوائز للصحافيين، والجمعيات والسينمائيين والموسيقيين والكتاب الذين تتميز أعمالهم بروح التضامن والإنسانية والاستقلالية، وفي ذات الوقت هو مستشار أدبي بمنشورات "ليبرس ديل سيغليه".روايته هذه أول عمل أقرأه له، وتميزت بحسه الإنساني الذي يبدو واضحا وطاغيا على السرد، ويتنقل ببساطة متناهية بحكايته، وبلغة سهلة تحكي قصة تاجر بهارات فنلندي عاش بمدينة سوسة في تونس، ووقع في حب ممرضة تونسية عالجت ظهره من دسك أُصيب به أثناء تنقلاته بالصحراء، وخلال فترة علاجها لظهره كانت تسأله عن بلاده وعاداتها وتقاليدها وطباعها، وكانت تنقل له الصورة المختلفة عن بلده مقارنة ببلدها، ومن خلال تبادل هذه الأحاديث تنشأ بينهما مشاعر دافئة حتى قبل أن تسمح له برؤيتها، وعندما يشفى يدعوه أخوها إلى منزلهم ليتعرف عليها وعلى أسرتها، ومن هذا اللقاء تنشأ قصة حب قوية بينهما تنتهي بإعلان إسلامه ليتزوجها، وكان شرطها أن يترك لها مساحة من الحرية لتلتقي بأصدقائها وتسافر إلى المؤتمرات التي تُدعى إليها، وبسبب موافقته على شرطها هذا تسافر إلى لبنان عام 2006 مع مجموعة من الأطباء والممرضات المتطوعين من الهلال الأحمر، الذاهبين لأجل الإسعاف الصحي في لبنان، وتقتل أثناء الخدمة خلال عملية عسكرية قادتها القوات الإسرائيلية في خراج مرج عيون مع بعض من أفراد منظمات إنسانية أخرى.ذكرتني هذه الرواية برواية اسمها "محمد يحبني" للكاتبة الفرنسية ألينا ريس، بسبب سهولة وبساطة السرد، عبارة عن قصة حب بسيطة بين سائحة فرنسية وصياد مغربي، وهو الملاحظ على أغلب الروايات الأوروبية الحديثة، ليست هناك أحداث جسام ولا حيوات معقدة متشابكة، بل بساطة وسهولة حياة مريحة رغدة يعيشها الكتاب، فلم تعد بحياتهم تلك الصعوبات التي عاشها كتاب بدايات القرن العشرين مثل تشارلز دكينز وفيكتور هيغو أميلي وشارلوت برونتي وجين أوستن، وغيرهم ممن عاشوا حياة مكبدة بالتعقيدات تشبه حياة كتاب أميركا الآتينية التي أنتجت أروع الأعمال الروائية، وكذلك الروايات الروسية والهندية والصينية، فكلما كانت مشاكل ومآسي الحياة قاسية وصعبة كانت الأعمال الروائية عظيمة وعميقة.
كتاب الروايات الأوروبية الحديثة تتشابه أحداث حياتهم مع كتاب الخليج، وعلى الأخص الكويت، حيث لا توجد أحداث تُعلم وتدمغ الروح بالوجع الإنساني الجسيم الذي يُنتج الأعمال العظيمة.وهذا لا يعني أن الرواية سيئة، بل بالعكس الرواية حالة إنسانية شفافة كشفت عن مآسي الحروب والحب والتضحية وقبول اختلافات الآخر والتكامل معها بعزف هارموني جميل، كشف جمال الاختلاف وضرورته للتلاقح والتلاقي مع مختلف الحضارات والثقافات، ومنها كشفت عن عادات ومشاعر الرجل الفنلندي الآتي من أقصى شمال الكرة الأرضية لفتاة شرقية عربية مسلمة مختلفة عن تركيبته كلها، وكما تقول بطلة الرواية الممرضة التونسية جملة في غاية العمق الذي يختصر أميالا من شرح الكلام: "من لا يفهم نظرة، لا يمكنه أن يفهم شرحا طويلا".من الفقرات الجميلة رأي الفنلندي في المرأة المسلمة، حيث يشبهها بمشربية رقيقة ونادرة، مثل تلك النوافذ الدقيقة المجدولة بالخشب التي تحجب المرأة عن نظر الآخرين، في حين أنها تسمح لها بأن ترى الخارج دون أن تتورط.من أجمل حكايتها قصة مكتبات الرمل الجزائرية التي أخفى فيها الصحراويون كتبا قيمة ومخطوطات ثمينة وأبحاثا في التاريخ والطب والرياضيات والعلوم ونسخ القرآن، أخفوها بجوف الكهوف الباردة داخل غرف سرية قائمة عند نهايات متاهات وممرات مظلمة سموها خزانات مكتبات، بعد ذلك أكلتها الحشرات وضاعت الكلمات في الهواء والرمال.من واقع هذه المكتبات الرملية كتبت لزوجها الفنلندي رسالة تسلمها بعد مقتلها، من أجمل الرسائل التي قرأتها: "يوم نموت، وكما كل بقية الأشياء، هذه الكلمات والأحلام تختفي إلى الأبد، تنزلق من بين أصابعنا، تتحول إلى غبار، إلى نسمات هواء، لتعود إلى الرمل والرياح. فأنا الآن بقربك وبين يديك، لستُ أكثر من كتاب من دون رغبات وأحلام وكلمات، كتاب تتناثر صفحاته بين أصابعك فيما تحاول ملامستي، لستُ أكثر من صفحات رقيقة، كأنها حرير، صفحات تتحول نثارا ذهبيا بين أناملك، كتاب كتلك الكتب التي تختفي كل يوم لتتماهى بالرمل في مكتبات الرمل".