تشهد العاصمة الفرنسية باريس أول احتفال من نوعه، وهو مرور قرن من الزمن على سكوت آخر بندقية في الحرب العالمية الأولى، وتأتي رمزية هذا الاحتفال أنها توقفت بإرادة الأطراف المتحاربة عبر المفاوضات، حيث كانت القوى المتقاتلة متكافئة، وتساوت في خسائرها البشرية، حيث تقاسم قوى المحور وقوى الحلفاء نحو 40 مليون قتيل وجريح.نعم شهد العالم، وتحديداً في أوروبا، حرباً أكثر شراسة بعد ذلك بعشرين عاماً، إلا أن الأوروبيين قد اتعظوا من مرارة القتال، واتخذوا قرارات مهمة لوقف حالة العداء نهائياً، واستبدالها بالتعاون والتكامل الإقليمي تحت مفاهيم التسامح والحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وبالفعل حققت هذه الدول أمانيها وشهدت حقبة زمنية تصل إلى مئة عام من الأمن والاستقرار والتطور، وآخر ما توصل إليه العقل البشري من السعادة والهناء.
هذا الجانب المشرق من أوروبا يقابله جانب أسود بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى، وتحول هذا الملاك الذي بنى نفسه على قيم الديمقراطية والتعددية والسلام إلى وحش كاسر، وأفرغ كل معاني الحقد والظلم والكراهية والجريمة والنهب وافتعال الحروب وزرع بؤر الفتنة في أرجاء العالم، وكان لمنطقتنا العربية نصيب الأسد من وجه أوروبا المعتم، حيث قسمت بريطانيا وفرنسا الشرق الأوسط تبعاً لمصالحهما إلى دويلات، ورسّت حدوده رغماً عن دوله في ظل اتفاقية سايكس بيكو التي تحمل اسم وزيري خارجية باريس ولندن، ثم زرعت الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي إثر وعد بلفور المشؤوم، والنتيجة أن أوروبا التي تنعمت بالسلام والازدهار طوال قرن من الزمن تركت إرثاً دامياً من الحروب والصراعات وأنهار من الدماء والملايين من المشردين، وسقوط المعالم الحضارية الأولى في الدنيا ومنبعها العالم العربي.العقل الغربي يعيب علينا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى أننا مهووسون بنظرية المؤامرة؛ لأننا نلقي أسباب فشلنا على شماعة الاستعمار والقوى الأوروبية، ويسخرون منا من أبراج عاجية بأننا يجب أن نقتفي خطوات أرجلهم إذا ما أردنا النهوض والعيش بسلام مثلهم، ولكن بالله عليكم هل قبلت أوروبا بزعيمتها الجديدة الولايات المتحدة الأميركية يوماً ما أن تدشن لبنات الديمقراطية في عالمنا العربي؟ حتى دعاة الديمقراطية والنشطاء في مجال حقوق الإنسان في العالم العربي تأخذهم الدول الأوروبية إلى أحضانها تحت شعار اللجوء السياسي لمنع تأثيرهم المباشر على بلادهم وبني جلدتهم.على صعيد آخر، أوروبا تعلم أكثر منا أن عقود السلاح والقنابل والصواريخ مع البلاد العربية تفوق عشرات المرات حجم التكنولوجيا والمصانع التي تزودنا بها، وأوروبا أفهم منا بأن أموالنا وأصولنا وودائعنا البنكية التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات تستثمر في شركاتها وبنوكها ومصانعها في حين لا يتم استثمار قرش أبيض من أموالهم في بلداننا، وحتى الزعماء الذين نهبوا خيرات شعوبهم وأطيح بهم فقد استولوا على أرصدتهم البنكية وثرواتهم الخاصة، كما أن أخلص حلفاء الغرب من القادة هم أكبر دكتاتوريات العصر السياسي الحديث.أما المضحك المبكي أن قادة الميليشيات والأحزاب والتيارات المتقاتلة في بلداننا العربية، وممن يتم تزويدهم بالسلاح والمال، تنظم لهم العواصم الغربية لقاءات التشاور والمفاوضات!معاهدة فرساي في باريس أنهت حرباً كونية دامت أربع سنوات دامية في ستة أشهر، وذلك في عام 1919، لكن أوروبا عجزت من 1918 حتى 2018 عن وقف الحرب في الشرق الأوسط المسكين، فمرحى لكم يا عرب الفرساي!
مقالات
فرساي يا عرب فرساي!
13-11-2018