بما أنني إنسان يؤمن بأن للمثل الأميركية أهمية في الخارج، وخصوصاً أن دعم حقوق الإنسان والديمقراطية في الخارج يشكّل الطريقة الوحيدة للترويج لمصالحنا على الأمد الطويل، لا أستطيع في ظل أي سيناريو محتمل أن أدعم سياسة ترامب الخارجية. أملك نظرة مختلفة إلى العالم تنطلق من افتراضات مغايرة، ولكن من وجهة النظر الوطنية، تتمتع عقيدة ترامب بجاذب كبير، وتشدد هذه العقيدة أو حتى تبجّل "السيادة" الأميركية بالاستناد إلى مفهوم ضيق عن مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والأمنية، ويؤدي كل هذا إلى سياسة خارجية تبادلية أكثر وضوحاً مع سعي الرئيس وراء تلك المصالح وهو غير عابئ بالأعراف أو المؤسسات الدولية. لا يكترث بغير المواطنين، ويعتبر القيم والمثل كماليات في أفضل الأحوال وعقبات تعرقل السعي وراء المصالح الوطنية في أسوئها، أما من ناحية الأسلوب فتبدو عقيدة ترامب هزيلة، ومتحجرة، وعدائية إلى حد التبجح حتى.
على غرار معظم العقائد، لا تضاهي السياسة الخطاب، لكن بصمة ترامب على السياسة الخارجية الأميركية ستظل مهمة بسبب محاولتها الواضحة والطموحة لتحديد توجيهات لمن يرغبون في حمل راية "الولايات المتحدة أولاً" في المستقبل. بكلمات أخرى، نجح ترامب في تقديم مجموعة أفكار لها قوتها الضمنية الخاصة، حتى لو لم تعكس الإدارة دوماً هذه الأفكار في سياستها الخارجية اليومية، ولا شك أن هذا، إلى جانب التبدلات العميقة في السياسات المحلية، يضمن تذكّر ترامب كأحد الرؤساء الأكثر تأثيراً في الحقبة المعاصرة.على سبيل المثال، خرج خطاب ترامب في 25 سبتمبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بقوة عن الإجماع بين الحزبين في واشنطن الذي يشدد على أهمية القيادة الأميركية في الحفاظ على "النظام الدولي الليبرالي" وتأييد، ولو صورياً، الترويج للديمقراطية في الخارج. فباستثناء المواضع التي تستطيع فيها واشنطن استغلال حقوق الإنسان كعصا ضد أعدائها، لم يعرب ترامب عن أي اهتمام بسلوك الدول الأخرى الداخلي. وينسجم هذا مع ما أدعوه "السيادة الثقافية" التي تحدث عنها الرئيس في خطابه:"يمثّل كل منا هنا اليوم مبعوث ثقافة مميزة، وتاريخا غنيا، وشعبا تربطه معاً روابط الذاكرة، والتقاليد، والقيم التي تجعل من وطننا مكاناً لا مثيل له على الأرض... أحترم حق كل أمة في هذه الصالة بالسعي وراء عاداتها، ومعتقداتها، وتقاليدها. لن تخبركم الولايات المتحدة كيف عليكم أن تعيشوا، أو تتعملوا، أو تمارسوا عبادتكم".أما الجزء المتبقي من الخطاب، فاتخذ منحى حالكاً عدائياً، متفادياً حتى حجة مثالية السياسة الخارجية. بدا ترامب مخيفاً في كرهه الواضح لروح التسوية والتعاون، ولا شك أن بعض ما قاله يشكّل تفاخراً لا أكثر، إلا أن البعض الآخر حقيقي بالتأكيد، ففي الشرق الأوسط مثلاً أمِل سلف ترامب أوباما، الحد من الصراع، بيد أنه لم يعرب عن أي اهتمام يُذكر باستثمار الموارد الضرورية لتحقيق تلك النتيجة. من المؤكد أن ترامب مختلف كل الاختلاف عن أوباما من حيث النوايا والحدس، لكنه حملَ فك الارتباط المدروس الذي اتبعه أوباما إلى مستوى مختلف وربما منطقي: اللامبالاة الوقحة. إذاً، ثمة منهج محدد لما يبدو لكثيرين جنوناً أو غباء أو كليهما، لكن امتلاك منهج والإعراب عن تماسك أكبر لا أقل لا يعني بالضرورة أن هذا جيد.* شادي حامد* «بروكينغز»
مقالات
تفكيك سياسة ترامب الخارجية
13-11-2018