رغم فداحة الأضرار التي تعرضت لها مناطق الكويت، مع هطول كميات كبيرة من الأمطار خلال الاسبوع الماضي، فإن الأمر لا يخلو من دروس عميقة، يمكن لصناع القرار الاستفادة منها... إذا كانت النية والرغبة صادقتين. فالكميات التي هطلت على الكويت، سواء أكانت متوقعة أم لا، لم تكن لتسبب الكثير من الأضرار، لولا أن الاستعدادات الاحترازية إلى جانب كفاءة البنية التحتية كانتا أقل من الحدث، رغم أن ما تم إنفاقه خلال 6 سنوات ماضية، لا سيما على مشاريع وزارتي الأشغال والإسكان -من طرق ومدن وشبكات أمطار- فاق 10 مليارات دينار، بما يعادل نصف ميزانية الكويت في عام كامل!
وبعيداً عن التشكي أو "التحلطم" فإن "غرقة الأمطار"، التي جاءت -على عكس المنطق- في المشاريع والمناطق الجديدة، لا القديمة، أعطت مجموعة من الدروس للإدارة العامة، أولها ضرورة إحداث تغيير شامل على قانون المناقصات العامة رقم 37 لسنة 1964، الذي تم تعديله عام 2016 بما يمكن وصفه بـ "تعديل دعائي لا علاقة له بالأمور والتفاصيل الفنية"، خصوصاً أنه سمح في عنوانه العريض بدخول الشركات الأجنبية مباشرة في المناقصات العامة، إلا أنه كبّلها في التفاصيل بأن وضع عليها قيوداً تجعل دخولها إلى المناقصات العامة غير مجدٍ.
أجنبي ومحلي
فقد ألزم القانون "الجديد" أي مقاول أجنبي بإسناد ما لا يقل عن 30 في المئة من أعمال المناقصة الى مقاولين محليين، وهو ما يترتب عليه أضرار بالغة على صعيد المنافسة والأسعار والجودة، بل إنه ينفي الغرض من السماح للشركات الأجنبية بالدخول المباشر في المناقصات، ويجعله شكلياً لما فيه من قيود على المستثمر الأجنبي، وكذلك ألزم الشركات الأجنبية بشراء ما لا يقل عن 30 في المئة من المواد من الصناعة الوطنية، بداعي تشجيع المنتجات الوطنية، غير أن القانون ذاته يبين ان الهدف هو التنفيع لا التشجيع، إذ أتاح الشراء في حال عدم توافر المنتج المحلي، عبر الموردين المحليين، لا الاستيراد المباشر، وهنا توجيه واضح لمصلحة الموردين مقابل ضغط أكبر عن الشركات الأجنبية، في حين لا يترتب على الوكلاء المحليين أي التزام.كذلك غلب على التعديلات الخاصة بقانون المناقصات العامة تهاون لافت مع المخالفين، خصوصاً فيما يتعلق بإلغاء المناقصات التي تزيد قيمتها على القيمة التقديرية، أو التي تحتوي على تحفظات جوهرية أو مخالفة للشروط، أو التي انتهت الحاجة إليها، إذ استخدم المشرع لفظ "جواز الإلغاء"، بدلاً من "وجوب الإلغاء"، ووضع قيداً لجواز الإلغاء بموافقة ثلثي أعضاء الجهاز، في حين أن المنطق يحتم التشدد في "وجوب الإلغاء"، حفاظاً على أموال الدولة وجودة التنفيذ.هذا كله يستدعي تعديلاً جذرياً لقانون المناقصات، يجعل دخول الشركات الأجنبية بشكل فعلي لا شكلي.مهنية إدارة الأزمات
أما ثاني الدروس فيتعلق بإدارة الأزمات، وهي مسألة تتطلب الممارسة والمهنية بين الجهات المعنية، أكثر مما تتطلب تأسيس هيئة حكومية لإدارتها تصطف مع العديد من الهيئات الأخرى، التي شكلت في السنوات الأخيرة عبئاً على القطاع الحكومي، فالممارسة في الكويت للأزمات ضعيفة نسبياً، ومعالجتها متأخرة غالباً، والاستفادة منها معدومة دائماً، أما استشعار الخطر قبل حدوثه فليس من ضمن أدبيات الإدارة العامة أبداً، وهذا ما تجلى في العديد من الملفات، من الماضي القريب الى اليوم، كمحطة مشرف بكل أضرارها البيئية على الحياة البحرية والبشرية، مروراً بسوء تنفيذ المنازل الحكومية في عدد من المناطق الجديدة، وانتهاء بالكثير من علامات سوء التدبير في غرق الأمطار الأخير، والذي تجلى في جسر المنقف الحديث، الذي سرعان ما يغرق بمجرد هطول أي كمية من الأمطار، مهما كانت متوسطة.فتحديداً، في ملف الأمطار، من المفترض أن نمتلك الخبرة الكافية للتعامل مع أي طارئ، ليس فقط لحجم الإنفاق العالي على البنية التحتية، بل أيضا لأن التاريخ الحديث يشير الى ان الكويت مرت بمواسم أمطار غزيرة في اعوام 1993 و1997 و2000، إلى جانب مواسم أقل ما بين 2004 و2007، وحتى في آخر 3 سنوات كان هناك تعثر في مواجهة الموقف، رغم محدودية هطول الامطار.جودة التحقيق
ثالث الدروس يرتبط بجودة لجان التحقيق وفعاليتها، إذ يكفي البحث في ارشيف مجلس الوزراء والوزارات والهيئات الحكومية، الى جانب لجان التحقيق البرلمانية، لمعرفة أن معظمها لا يتعدى مجرد امتصاص لحالة السخط، في وقت معين، وقد ظهر ذلك في عدد من القضايا؛ كحرائق جامعة الشدادية وتهريب الحاويات من الموانئ، أو حتى تلك المرتبطة بموسم الامطار، كالحصى المتطاير في الشوارع وغرق الأنفاق والطرق، في السنوات السابقة، بل إن بعض لجان التحقيق تتخذ قرارات تأديبية كالعزل أو الإحالة للنيابة العامة، دون ان توصي بآليات تضمن عدم تكرار المشكلة.تعيين القياديين
ومن الدروس الأساسية المستفادة من التعثر في ملف الأمطار أهمية إقرار قانون لتعيين القياديين في الوزارات والهيئات الحكومية، بما يراعى مسائل التدرج والكفاءة، فأزمة الادارة العامة لم تعد في مجلس الوزراء فقط، بل في قطاعات فنية مهمة، حتى باتت بعض المناصب ضحية للتسويات السياسية والتعيينات الانتخابية، على حساب الكفاءة والتدرج المهني.تعطيل البورصة
في العطلة الرسمية، التي شهدتها البلاد، قامت العديد من الجهات الحكومية (العسكرية والمدنية) بأعمال الطوارئ، وانعكس التعطيل أيضا على القطاع الخاص، الذي يتعامل مع مؤسسة مالية ومصرفية دولية، وإذا كانت البنوك مثلا تلبي الحد الأدني من التعاملات عبر خدماتها الإلكترونية، فإن من غير المفهوم أن يشمل التعطيل بورصة الكويت، لارتباطها المباشر مع مصالح المستثمرين... فأي بورصة في العالم هي أداة للتمويل والاستثمار لا يحبذ تعطيلها إلا للضرورة القصوى، ومع التطور التكنولوجي يفترض أن تكون آليات التداول الإلكتروني متاحة، خصوصاً أن كثرة العطل ربما تؤثر على استهداف الأموال الأجنبية، وحتى المحلية، فضلاً عن فرص الترقي لمستويات أعلى في مؤشرات الصناديق العالمية.أفكار تقدمية
لو تم التعامل مع هطول الأمطار بأفضل مما شهدناه، لكانت هناك فرصة لمناقشة أفكار أخرى تقدمية تتعلق مثلاً بكيفية الاستفادة من كميات المطر في تخضير المناطق الصحراوية أو أية استفادات بيئية أخرى. أما مع واقع الحال، فجُلّ الأماني تتعلق باستيعاب دروس الأزمة وعدم تكرار ما حدث فيها.