يقول حلفاء رئيسة الوزراء البريطانية إنها بارعة في التكتيك لكن مناوراتها قد لا تكون كافية لإخراج بلادها من الاتحاد الأوروبي.تتعرض رئيسة وزراء بريطانيا إلى ازدراء وسخرية على نطاق واسع، وطوال 17 شهراً منذ خسارة حزبها– حزب المحافظين– للأغلبية في الانتخابات البريطانية كانت وسائل الإعلام تتكهن بموعد إطاحة ماي بشكل يومي وتتحدث عن اليوم الذي ستبدأ فيه خطوات إقالتها.
ومع اقتراب الكارثة الوطنية المتمثلة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) بصورة مثيرة للقلق تبدو رئيسة الوزراء في وضع يائس، وقد علقت بين الاتحاد الأوروبي وبين المشككين من أعضاء حزبها.وكان من الواضح أن المحادثات المتعلقة بالبريكست قد توقفت لأسابيع عديدة، ويشعر نصف عدد البريطانيين بالهلع من الخطر الحقيقي الذي قد ينجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق ما يفضي الى تحطم الاقتصاد والعلاقات مع جارات بريطانيا، وتقف البلاد عند حافة أسوأ أزمة تواجهها منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن بريطانيا في هذه المرة تعلن الحرب على نفسها.وشعر كبار الأعضاء في حزب المحافظين بالسخط لهذا الوضع، وقالت مجلة ذي سبكتيتر وهي مجلة محافظة واسعة النفوذ إن أداء تيريزا ماي المتعلق بالبريكست وتصرفاتها العديمة الجدوى وغير الحاسمة أسهما في الوصول الى ما تشهده البلاد الآن.وتروي المجموعة الصغيرة من حلفاء ماي ومستشاريها من وراء الستار قصة مختلفة تماماً، وهي تقول إن الاتفاق مع بروكسل وشيك وإن ذلك سيتم وفقاً لشروط ماي وسيتم تخفيف التعابير الدبلوماسية المتعلقة بالعقبة الراهنة الأكبر، وسيتم التوصل الى اتفاق حول وضع أيرلندا الشمالية. وبحسب هؤلاء المستشارين فإن ماي كانت تمضي في مسار أكثر ذكاء وبراعة نحو تقليص الضرر الذي يمكن أن ينجم عن البريكست، ويفضي في نهاية المطاف الى موافقة من جانب مجلس العموم البريطاني.ويقول حلفاء ماي إنه فيما ارتكبت البعض من الأخطاء التكتيكية الخطيرة فقد كانت أقل سذاجة مما تبدو عليه، وبدلاً من أن تكون الضحية العاجزة للانقسام داخل حزبها فقد انهمكت في عملية خفية تهدف الى تفادي المواجهة مع جناح اليمين بشكل علني فيما كانت تتودد اليه على صعيد خاص. ومثل الملاكم محمد علي في مباراة العودة اختارت ماي استيعاب اللكمات إلى أن أصبحت قادرة على توجيه ضرباتها المؤثرة.والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل أن تيريزا ماي ملاكمة ميكافيلية أكثر منها موجهة لكمات؟ ربما. ولكن حتى اذا كانت هذه الترجمة السخية لتصرفات رئيسة الوزراء صحيحة خلال العامين الماضيين فإن استراتيجيتها ستفضي الى غلطة خطيرة عندما يصل الأمر أخيراً الى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولن ينقذ بريطانيا سوى قيادة جريئة وليس القيام بألعاب من غرف خلفية.
محنة ماي المحرجة
وقد أخبرني أحد كبار السياسيين البريطانيين في معرض تعليقه على تصرفات رئيسة الوزراء بأن المرء إزاء محنتها المحرجة لا يمكنه التباهي بأعمالها إلا بعد إنجازها، وهي لا تتصرف بطريقة بطولية لكنها عملية، ووصف سياسي آخر تصرفاتها بالجنونية وأن الانقسام حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وضعها في «موقف حرج للغاية» منذ البداية، وقد علقت بين أعداء من حزبها وبين ممارسة معقدة في الدبلوماسية الدولية.وكان ذلك يعني استراتيجية الحذر والخداع: تبني اللغة المتشددة المتعلقة بالبريكست كبداية فيما كانت تعلم أن التسوية مع الاتحاد الأوروبي ستكون حتمية في نهاية المطاف وتفادي المناقشات الحكومية الجماعية في حال أفضت تلك المناقشات الى انسحابات أو تسريبات وليس على شكل الرد على هجوم بوريس جونسون المهين على خططها المتعلقة بالبريكست ووصفها «بالجنونية». وكانت رئيسة الوزراء تخشى من أنها إذا هاجمت المتشددين من المشكيين في أوروبا بصورة مباشرة فإنهم قد يثورون ضدها ويقررون استبدالها بشخصية متشددة.وتشتهر ماي بأنها تعزف عن الاتصال وتميل الى السرية وتكره التحدي الموجه اليها، كما أن شعورها بأنها محاصرة شجع على تلك الميول والانطباعات، وقال شخص يقدم المشورة لماي إن «سريتها الطبيعية قد تعززت من خلال الممارسة السياسية، ومثل التحدث الى جدار أنت لا تحصل على جواب منها»، وأضاف أنها تعتمد على مشورة مجموعة مكونة من 6 الى 8 أشخاص، وحتى بعض أفراد هذه المجموعة ليسوا متأكدين من استراتيجيتها لأنها تحتفظ بالكثير من الخطط لنفسها.تفادي المصيبة
لقد انقطعت ماي عن مصادر النظرة المعمقة التي تحتاج بريطانيا اليها من أجل تفادي المصيبة، كما أن رجال السياسة الغاضبين والمحبطين والخبراء وقادة رجال الأعمال تم حجبهم وتهميشهم أو تجاهلهم عندما حاولوا إطلاع رئيسة الوزراء على التعقيدات الكارثية التي ينطوي عليها خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، وحتى أولئك الذين تستمع اليهم يندر أن يحصلوا على جواب حول ما يدور في ذهنها، وهم في أغلب الأحيان يعرفون ذلك من خلال تصرفاتها فيما بعد. ونظراً لاعتمادها طريقة الصمت وعدم الإفصاح عما يجول في ذهنها لم تطرح ماي فكرتها حول ما تعتبره الاتفاق الذي تريده في بريكست، حتى إذا دفعت بروكسل الى الموافقة عليه، كما أن ذلك سيفشل إذا لم يحصل على موافقة أعضاء الحكومة والبرلمان، ليس من خلال السرية والبراعة إنما عبر التأييد العلني والإقناع بصورة تامة.وهذه غلطة قاتلة في استراتيجية ماي لأنها في حاجة الى الدعم الذي لم تحصل عليه على أي حال. ومنذ تسلمها السلطة في عام 2016 كان يتعين على ماي إطلاع بريطانيا على حقيقة الوضع: إن البريكست الذي تتطلع البلاد إليه لا يمكن تحقيقه لأنه ينطوي على خيال، وإن أنصار البريكست كذبوا على الشعب البريطاني ونحن لا يمكننا الحصول على كل منافع الاتحاد الأوروبي من دون دفع ثمن في مقابل ذلك، ويتعين علينا تحقيق تسوية أو مواجهة كارثة.وحتى بعض مؤيدي رئيسة الوزراء المقربين يقولون بشكل شخصي إن الاتفاق الذي تسعى إليه لن يكتب له البقاء والاستمرار، وفي حال التقدم الى مجلس العموم الذي يتعين أن يوافق على أي اتفاق حول البريكست والحصول على الموافقة المطلوبة فإن الكثير من المشككين في أوروبا من حزب المحافظين سيثورون، ولن تعثر على تدخل ما يكفي من المعارضة لإنقاذها، وسيفضي ذلك الى فوضى وغليان وحديث عن إعادة استفتاء على البريكست وخوف «من عدم الحصول على اتفاق».هذه المشكلة لم تكن حتمية قط، وهي نتاج سوء تقدير ومحاكمة من جانب إفراط ماي في سياساتها الحزبية الأساسية، وكانت ماي أقوى دائماً مما كانت تظن، وقد تمكنت من إلحاق الهزيمة بخصومها لتصبح رئيسة للوزراء، ولم يكن لدى أحد من الخصوم الدعم اللازم لاستبدالها منذ ذلك الوقت.ثم إن زعيمة أكثر جرأة كان عليها المجادلة علانية حول الخروج من الاتحاد الأوروبي بصورة أقل تشويشاً منذ البداية، إضافة إلى إقناع البلاد المقسمة لتأييدها وتفادي الضرر الفادح الذي ألحقناه باقتصادنا وسمعتنا في الأوساط الدولية وعلاقاتنا مع الشركاء الأوروبيين.لم تكن ماي ناجحة لكنها كانت الأفضل الذي يستطيع حزبها تقديمه والموافقة عليه. ويسأل أحد العارفين ببواطن الأمور: «هل هناك من سيتقدم؟»، والكل يسعى الى الحصول على منصبها بعد شهر مارس عندما يتوقع أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي. ما من أحد غير ماي يريد ذلك الآن.