حدث مرة أن سألوا شاه إيران: لماذا لا تصبح ملكاً دستورياً (يسود ولا يحكم) مثل ملك السويد، فأجاب عندما يتصرف الإيرانيون مثل السويديين سأتصرف كملك دستوري! هذه الإجابة المتعجرفة بكل ما تحمل من غطرسة وتكبر رواها الأكاديمي صموئيل هنتجتون في كتابه الكلاسيكي "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة"، الآن مضى نصف قرن على نشر ذلك العمل الأكاديمي الضخم (نشر عام 1968) كما كتبت بعده عدة كتب وبحوث، مثل "الموجة الثالثة وصراع الحضارات"، إلا أن كتابه "النظام السياسي..." يعد حجر الأساس لأي شخص يبحث عن ضرورة التغيير السياسي في المجتمعات التقليدية، ودولنا العربية تمثل نماذج فذة لها، وما هي شروط التغيير وكيف يمكن تحقيق الحداثة؟!لماذا الآن هنتجتون وكتابه عن النظام السياسي؟! يمكن تصور أن "الظرف السياسي الآن" في منطقتنا يتطلب ذلك، فذلك الأكاديمي وبكل الضجة الفكرية التي أثارتها مؤلفاته، ومن بعده كتب تلاميذه مثل فوكوياما، وفريد زكريا، وفؤاد عجمي، يقرر أنه لا يمكن للملك أو الحاكم في المجتمعات التقليدية أن ينقل وطنه من العالم التقليدي "المتخلف" إلى دنيا الحداثة والتطور مثل عالم الغرب، ما لم تكن هناك سلطة مركزية بيد الحاكم، تقوض سلطة المنافسين له، وتخول هذا الحاكم الإجراءات الاستثنائية ليبدأ الإصلاح والتحديث، فالمشكلة "ليست إجراء انتخابات بل إنشاء تنظيمات، وفي العديد من البلاد الجاري تحديثها، إن لم يكن معظمها، ليست الانتخابات من دور سوى تقرير سلطة قوى اجتماعية معطلة ورجعية...". هل يمكن القول إن هنتجتون يفكر، مثل الكثير من السياسيين عندنا، في أن الديمقراطية رفاهية وتعوق حركة التقدم والتحديث؟!
هو لا يقول ذلك، إنما يقرر أنه في مرحلة بناء الدولة الحديثة تكون "... المشكلة الرئيسية ليست الحرية بل إنشاء نظام عام شرعي، ربما يكون لدى الناس نظام دون حرية، لكنهم لن يتمكنوا من الحصول على الحرية دون النظام... لابد من سلطة حاكمة "اوثرتي" قبل التمكن من تقييدها..."، فمثلاً ما معنى أن نتحدث اليوم، وبعد نصف قرن على نشر كتاب المؤلف، عن معنى الحرية في بلد مثل ليبيا، أو اليمن، أو سورية، وكيف هي حال الديمقراطية في العراق؟! أسئلة محيرة ونزاع فكري عند دعاة الديمقراطية والحداثة لا ينتهي.يضرب هنتجتون أمثلة من التاريخ في الشرق والغرب من شاه إيران ومشروعه التحديثي (الثورة الإيرانية حدثت بعد طبع الكتاب بعقد تقريباً) إلى السلطان عبدالمجيد ووضعه إدارة "التنظيمات" في الإمبراطورية العثمانية، والذي يلقب بأنه بطرس الإمبراطورية الأكبر، وعدة أمثلة من التاريخ القريب والبعيد، ويقول "... يتطلب التحديث – عادة – لا مجرد نقل السلطة من مجموعة إقليمية وأرستقراطية ودينية إلى مؤسسات مركزية علمانية قومية فحسب، بل تركيز السلطة في يد فرد واحد داخل هذه المؤسسات أيضاً، فعلى الملك تأكيد متطلبات الدولة ومتطلبات الأمة في مواجهة العائلة والطبقة والعشيرة الأضيق أفقاً".قد يتصور أن المؤلف يروج لفكرتنا العروبية عن "المستبد العادل"، وكيف يمكن أن نتخيل الاستبداد والعدل في آن واحد! وبالتأكيد هناك عدد من المثقفين الكتاب المحسوبين على الفكر الليبرالي (لكنه ظلامي) اليوم تمسكوا بظاهر فكر المؤلف، وأخذوا يروجون لطغاة دمويين في النظام العربي، بحجة "ظروف المرحلة" ووضعنا الخاص الذي يتطلب الحسم والتضحية بالحريات حتى نصل لعتبة الحداثة... كأن هؤلاء المثقفين البائسين يقرأون هنتجتون بمزاجهم وعلى طريقة "ولا تقربوا الصلاة..." فانتهينا بمستبدين لم يقودوا أوطانهم لدنيا الحداثة والإصلاح، بل لعالم الفساد والدماء، فهل هذا ما يريده المطبلون لتلك الأنظمة؟!
أخر كلام
هل من ضرورة للاستبداد؟!
18-11-2018