تبحث عن الماء دوما أو عن مدينة قلبها من ماء بأشكاله المتنوعة، قد يكون بحرا أو نهرا أو بحيرة أو حتى مجرى بين أشجار النخيل في تلك البقعة الجميلة من ضواحي مسقط، أو عين كانت دوما تسقي البعيد وتترك القريب!! وتتذكر "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، وتردد لولا الماء لما التقى الأحبة ولما تعانقوا في حمايته عند شاطئ في ليلة نصفها قمرية ونصفها بعض نور حتى تبقى خصوصيتهم بعيدة عن أعين المتطفلين، أو عند حافة النيل حيث أنهار الحب تدفقت ولم تتوقف حتى اللحظة، أما العيون فهي كالخرزة الزرقاء تحمي العشاق المتعانقين بعيونهم المتوارين خلف النخيل حتى لا يدركهم العسس!تأتي المدينة التي يقطع أوصالها الماء بين بلدات أو ضواح، وتدرك أنها الأخرى لا تعرف النوم أبدا حتى تخرج الشمس من بيتها متثائبة، فيختفي القمر خلف الأفق، تردد هنا الماء وبعض التفاصيل الشبيهة بمدينة تسكن قلبك منذ الطفولة، فيمتلكك إحساس بأنك تعرفها رغم اتساعها وتحولاتها وقلة زياراتك ومعرفتك إلا ببعض ألقها المرتبط بالمسرح الغنائي الرائع أو متحف المتربولتن، يسرع الناس في الخطى صباحا مهرولين لأعمالهم، وفي المساء عائدين بسرعة لتناول الوجبة السريعة في معظمها معدّة مسبقا، وكثيرا ما تكون معلبة وجاهزه للتسخين، يبهت البريق الذي حملته في حقيبة سفرك وأنت تضع كل تفاصيله في تفكير معمق، تردد بعد شهر أو أكثر ستنزلق درجات الحرارة حتى تتعدى الصفر نزولا، وقد يصحب ذلك تساقط للثلج فتلبس المدينة ثوبها الأبيض وهي التي لا تعرف من البياض والنور إلا قليله، حيث تحجب ناطحات السحاب الضوء، وحيث الماء لا يشبه ذاك الذي تعشقه.
ماء أو نهر دون حياة هو، بعض جمود كسكان هذه المدينة الذين لم تعلمهم الحياة إلا فن الجري المستمر يوما بعد يوم بعد يوم بعد شهر وبعد سنة، فلماذا تلك الاحتفالية بسباق الجري السنوي؟ ألستم تجرون طوال العام فما الجديد؟ وماذا عن هذا النهر الميت؟ هل يوجد ماء أو نهر لا يحمل كثيرا من الحياة؟ هو الوحيد الجامد المتجمد لا انعكاسات فيه إلا للطائرات المروحية الكثيرة الحركة فوقه، وبعض القوارب السريعة التي تنقل الركاب من ضفة لأخرى، لا مراكب شراعية تشبه "الفالوكة" ولا مراكب سريعة ترسل الموسيقى الشعبية الصاخبة التي كنت تنزعج منها أحيانا أو كثيرا، كما كل جيل أم كثلوم وعبدالوهاب وعبدالحليم، لا أضواء مشعة في المساءات الهادئة التي تتراقص على صفحة النيل فتخلق صوراً من الجمال الشعبي المتناسق مع الطبيعة المحيطة. ينبهر البعض بالنهر هنا أو انعكاساته من نوافذ ذاك المبنى الجالس منذ أكثر من سبعين عاما عند حافته، ذاك بشبابيكه المطلة على الماء لتخفف من حدة النقاشات السياسية التي تحدد مصير العالم أحيانا، ويبقى المكان الوحيد المتبقي لكل هذا الكم من البشر أن يجتمع تحت قبته شاء أم أبى، اتفق أم اختلف، ضعف أم بقي تحت سيطرة الخمسة المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية!لا الماء يشبه ذاك الماء، ولا الصخب، حتى صياح الديك الأول يشبه ضجيج تلك المدينة الحالمة في حين الحلم والضجيج يتناقضان أحيانا! هذه مدينة انتزعت قلبها منذ زمن، وبقيت هي كما هي منذ المهاجر الأول الذي حمله ذاك المركب من ضفة المحيط إلى ضفته الأخرى، فلا ليلها يشبه ليالي المدن المتعبة في جنوب الكون ولا نهاراتها تشبه المدن الحداثية التي طرزتها الرأسمالية بكل ما يلمع، فحين تنزل الثلوج تتعطل المدينة كما مدننا المتعبة من الأمطار التي تحولت إلى سيول في لمح البصر، وحين تسير في طرقاتها تبحث عن مسافة بين أكياس القمامة المكدسة على الأرصفة، في حين نتذمر نحن في ضواحينا من تحول الأرصفة إلى مواقف للسيارات أو حتى انعدامها. تستيقظ من أحلامك المتاحة بين رصيف وآخر تراقب ألا تسقط رجلك في حفرة أو مخلفات كلابهم المدللة، وتردد كيف لمثل هذه أن تكون مدينة أحلام البشر؟ كل البشر من أول نقطة ماء حتى هذا النهر الأقل جمالا من بين الأنهر المسترخية في أحضان المدن المنتعشة بالموسيقى والرقص والاحتفاء بالحياة؟* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية
مقالات
الماء قلب المدينة
19-11-2018