كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل وقت ليس ببعيد يأمل أن ينجح في جعل نفسه قائد واشنطن المفضل في أوروبا.مع استعداد بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، اعتقد هذا الرئيس الانتهازي أن ثمة فرصة لا تتكرر لتحويل فرنسا إلى شريك الولايات المتحدة الأوروبي الأساسي في التحالف عبر الأطلسي.
تاريخياً، كانت هذه مكانة شغلتها بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية مع تشكيل علاقة التشارك العسكري والاستخباراتي اللصيقة بين واشنطن ولندن أساس التعاملات الأميركية مع الأوروبيين. على سبيل المثال، في المرحلة التحضيرية التي سبقت غزو العراق المؤسف عام 2003، وصف رئيس الوزراء السابق توني بلير دور بريطانيا بـ"الجسر" بين واشنطن والقارة، مما دفع ألمانيا سريع البديهة إلى الإشارة إلى أن مشكلة جسر بلير كانت أن السير عليه كان يتدفق في اتجاه واحد.وبغية الحفاظ على هذا الجسر المزعوم، أيدت المؤسسة الحاكمة في واشنطن بشدة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ليس لأن المسؤولين يعتقدون أن هذا يخدم مصالح بريطانيا بل لأن مشاركة بريطانيا في مداولات الاتحاد الأوروبي الأعمق ساهمت في التخفيف من بعض صفات هذا الاتحاد البشعة، مثل سياساته التجارية الحمائية وميله الخفي المناهض للولايات المتحدة. ولكن مع استعداد بريطانيا للخروج، تسعى واشنطن بدأب للعثور على حليف جديد. بذل ماكرون قصارى جهده لتملق ترامب، في حين لم تخفِ سائر دول أوروبا كرهها لأسلوب ترامب الفظ في التعاطي السياسي، فقد دعاه ليكون ضيف الشرف في احتفالات يوم الباستيل (العيد الوطني الفرنسي) السنة الماضية.ولكن اليوم، بسبب سوء تعاطي ماكرون مع احتفالات يوم الهدنة التي وسمت الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، ما عاد بإمكاننا وصف العلاقة بين واشنطن وباريس بالودية.تبدد ما تبقى من بصيص أمل بشأن "الصداقة المقربة" المزعومة، التي نشأت بين ماكرون وترامب في مطلع هذه السنة، بالكامل بعد تعليقات الرئيس الفرنسي الخرقاء بشأن طموحه إنشاء قوة دفاع أوروبية.لا شك أن تأسيس منظمة مماثلة ينسجم إلى حد كبير مع رؤية ماكرون بشأن تحويل الاتحاد الأوروبي في دولة أوروبية عظمى تنافس القوى العالمية العظمى، مثل الصين، وروسيا، والولايات المتحدة، وكانت معارضة بريطانيا الراسخة لإنشاء كيان مماثل أحد العوامل البارزة التي ساهمت في قرار هذا البلد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في عام 2016.بما أن بريطانيا ما عادت قادرة على عرقلة طموحات الاتحاد الأوروبي التوسعية، يعتقد ماكرون أن الوقت قد حان للمضي قدماً بتأسيس قوة دفاع أوروبية يُعتمد عليها، قوة تعمل بشكل مستقل عن واشنطن وتحمي مصالح أوروبا. لا تُعتبر هذه الفكرة جديدة، وقد أُحبطت المحاولات السابقة للترويج لإنشاء قوة مماثلة بسبب المعارضة القوية من واشنطن ولندن، اللتين اعتبرتا أن حلف شمال الأطلسي الذي نجح في حفظ السلام في أوروبا طوال 70 سنة تقريباً يمثل خياراً أفضل.ولكن عقب قرار ترامب الأخير الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، يعتقد ماكرون أن أمامه فرصة لإعادة إحياء طموحاته بإنشاء قوة دفاع مستقلة، مشدداً على أن أوروبا ما عادت تستطيع الاعتماد على واشنطن لتنعم بالحماية.لكن ما أثار استياء ماكرون حقاً لم تكن الإشارة إلى أن على أوروبا تطبيق أجندتها الدفاعية الخاصة، بل الطريقة التي عبّر بها ماكرون عن خططته قبل أيام عندما كان ترامب في باريس للمشاركة في احتفالات الذكرى، فقد وجّه الرئيس الفرنسي إهانة كبيرة إلى ترامب حين ذكر أن هذه القوة، فضلاً عن حمايتها أوروبا من قوى ناشئة مثل الصين وروسيا، قد تحتاج إلى حماية القارة في المستقبل من الولايات المتحدة.بما أن المساهمات العسكرية الأميركية الكبرى في الحربين العالميتين كلتيهما شكّلت عاملاً بالغ الأهمية في انتصار قوات الحلفاء في النهاية، لا تُعتبر تعليقات مماثلة ذكية أو حتى دبلوماسية. غرّد ترامب حينذاك أنه اعتبر تعليقات ماركون "مهينة جداً"، وصار واضحاً اليوم أن القائد الأميركي قرر التخلي عن صداقته المتقطعة مع الرئيس الفرنسي، ساخراً منه بقوله إنه لولا تدخل الولايات المتحدة في كلتا الحربين العالميتين لكان الباريسيون اليوم يتكلمون بالألمانية.توخياً للدقة، لا بد من الإشارة إلى أن ترامب شن أيضاً هجوماً على سياسات فرنسا التجارية الحمائية، وخصوصاً الرسوم الجمركية الفرنسية على واردات النبيذ الأميركي. غرّد ترامب مهدداً: "هذا الوضع غير منصف ولا بد من تغييره". صحيح أن الخلاف الدبلوماسي بين الرئيسين الفرنسي والأميركي أمتعنا، إلا أنه لا ينبئ بالخير لمستقبل التحالف عبر الأطلسي. شئنا أو أبينا، يعتمد دفاع أوروبا بقوة على التفوق العسكري الأميركي البارز الذي تصبح أوروبا وحلفاؤها من دونه معرضين لمخاطر كبيرة.* كون كولين* "ذي ناشيونال"
مقالات
نهاية الصداقة المقربة بين ترامب وماكرون
20-11-2018