طائر استبرق الأبيض
في عمل أدبي يبدو خارج النسق الذي اعتادت استبرق أحمد الكتابة به منذ مجموعتها الأولى (عتمة الضوء)، حتى نضجها القصصي في "الأشياء الواقفة في الغرفة ٩"، تقدِّم لنا القاصة عملا أقرب إلى الفانتازيا، حيث تختلط الأصوات البشرية والحيوانية وصراخ الجماد في متوالية قصصية أقرب إلى النوفيلا منها إلى الرواية بعنوان "الطائر الأبيض في البلاد الرمادية"، الصادر حديثا عن دار مسعى.قد لا يتقبل الكثيرون هذا النوع من الأعمال، التي تعمل جاهدا على محاولة الوصول إلى فك رموزه المحيرة، وربطه سياسيا أو اجتماعيا، فتجد نفسك عاجزا تماما عن هكذا فعل. العمل يسير بك بأفقية نحو أحداث تمت صياغتها دون الحاجة لأي محاولة تتجاوز تبرير هذه الصياغة. إنه عمل فني تم تصميمه لأجل الفن وحسب. هو أقرب للمحاولة التجريبية، رغم تشابهه مع كثير من الأعمال الأجنبية التي تمت تسميتها ظلما بـ"أدب الطفل" في الثقافة الإنكليزية. وربما الأقرب له هو عمل كينيث أوبل "الأجنحة الفضية"، وعمل ريتشارد آدمز "ووترشب داون".
ما يميز استبرق هو الجرأة في طرح عمل أدبي مغاير. بالتأكيد ستجد مَن يقف ضده ولا يمتلك الجرأة في قبول هذا الخيال المحض، لكن الواقع يخبرنا بأننا بحاجة ملحَّة إلى كثير من هذه الأعمال التي تمزج بين أصوات بشرية تختلط بأصوات أخرى تكون فاقدة للصوت أحيانا، وفاقدة القدرة على التعبير. فعمل كهذا ربما لا يكرره الكاتب أكثر من مرة واحدة يعود بعدها إلى همومه الاجتماعية، وما أكثرها في عالمنا، الذي لم يتخلص من تبعات الصراع الحياتي، ليتفرغ إلى عمل خيالي بحت.الطائر الأبيض الذي تمحورت حوله الحكايات في النص لا يقدم لنا الكثير من الإبهار، وكذلك لم يقدم لنا العمود الذي يحاكي تاريخ السلاطين الذين مروا عليه، ولم ينجح جيش الشخصيات التي تم استنطاقها وحملها أسماء تشير إلى نوعها من فعل ذلك. ما يكتشفه القارئ حين يصل إلى نهاية لا تحمل مفارقة ولا مغامرة في الحبكة، بعيدا عن مغامرة الكتابة، كان ذلك ما ينقص النص الذي وقف عاجزا عن حمل هذه المفارقات.اعتمدت القاصة على مجموعة من الرسوم التي جاءت جامدة بعيدة عن تحقيق هدفها، إذا ما أريد لها هدف. النص كان قائما بذاته، ولم يكن بحاجة لتنوير، ما لم يكن غامضا أصلا. وكان النجاح الذي حققه النص هو تداخل أصوات الشخصيات دون خلل التباين المتوقع بين ما هو بشري أو حيواني أو حجري. منحت الكاتبة مساحة متشابهة للجميع لاستخدام ذات اللغة، وإن كان ذلك بصورة مختلفة، كأن يكون الجماد بلثغة في حرف الراء، ويتخلص منها قبل النهاية. عمل استبرق يفتح الطريق نحو اعتماد الخيال المحض في الكتابة الإبداعية، قد ينجح آخرون من شبابنا في ولوج هذا الباب الصعب الذي يحتاج إلى جموح خيالي ولغوي وكثير من الابتكار.