تتخذ بروكسل موقفاً صلباً متشدداً، ولكن المعتدلين من أمثال رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي يتعرضون للإبعاد تدريجياً عن السلطة في أوروبا.

شيء واحد يمكن أن يقال في هذا الصدد وهو أن الوسط يعزز موقفه، وحتى الآن على الأقل تتصرف بروكسل بشدة وثبات ولكن هذا لا ينسحب دائماً على أوروبا حيث كان يندر عبر التاريخ وجود وسط ثابت في الأساس، أما في هذه المرة فإن الصقور تستطيع بالتأكيد سماع الصيادين.

Ad

ويتمثل الصيادون في هذه الحالة بدولتين رئيسيتين هما المملكة المتحدة وايطاليا. وتريد الأولى الخروج من الاتحاد الأوروبي بصورة سلسة فيما تريد الثانية ببساطة كسر قوانينها وبشكل سلس أيضاً. ومثل فريق شد الحبل كانت بريطانيا تتبادل يومياً العناوين الرئيسية مع ايطاليا حول الأزمة.

وفي وقت متأخر من الأسبوع الماضي كان دور لندن في هذا السياق مع تفجر الوضع في وجه رئيسة الوزراء تيريزا ماي بشأن اقتراح الخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست» الذي اعتبر من قبل حزبي المحافظين والعمال مرتبطاً بشدة بقوانين الاتحاد الأوروبي. وبعد اجتماع استمر خمس ساعات للحكومة البريطانية في أعقاب مفاوضات متقطعة اتسمت بالتشنج مع بروكسل قدم أربعة وزراء بمن فيهم وزير البريكست دومينيك راب استقالاتهم كما شكك خبراء في قدرة ماي على تمرير الاتفاق عبر البرلمان أو حتى ضمان استمرارها في الحكم.

وكان المتوقع نسخة اخرى من استقالة بوريس جونسون الذي قال في كتاب الاستقالة إن بريطانيا تتجه نحو وضعية مستعمرة اذا تم تبني خطط تيريزا مي.

ومثل معظم نقاد ماي لم يعرض جونسون خطة بديلة، وحتى في هذه الحالة وعلى الرغم من تعهد رئيسة الوزراء بالدفاع عن اتفاقها أشارت التوقعات الى احتمال أن يخلفها جونسون، وإذا حدث ذلك فإنه سوف يعني بشكل شبه مؤكد خروجاً «قاسياً» من الاتحاد الأوروبي قد يعرض الاقتصاد البريطاني الى حالة من الفوضى والتخبط وخاصة مع هبوط قيمة الجنيه الاسترليني في الآونة الأخيرة.

الوضع في إيطاليا

وفي المناطق الأبعد من جنوب أوروبا كانت الحكومة الايطالية تضغط من أجل مزيد من الانفاق على العجز المالي الذي قالت اللجنة الأوروبية إنه غير مقبول لأنه سوف ينتهك القوانين المشددة التي وضعها قانون الاستقرار والنمو في الاتحاد الأوروبي. وقد رفض مسؤولون في هذه اللجنة ميزانية ايطاليا لأنها تزيد العجز المالي الى 2.4 في المئة فيما تتجاوز ديون الحكومة الايطالية ضعف حدود منطقة اليورو البالغة 60 في المئة. وفي ردها على هذا الموقف عمدت الحكومة الايطالية الى اصدار تعديلين بسيطين متحدية بروكسل لفرض غرامة عليها.

وقال بيير موسكوفيتشي وهو المفوض الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي رداً على سؤال في الأسبوع الماضي حول امكانية التوصل الى تسوية في هذا الصدد: «لا، نحن لسنا في مرحلة تفاوض ولا مناقشات والقوانين هي القوانين».

وهذا طبعاً مدخل جيد جداً في المفاوضات كما تبين فيما بعد، وربما تتعرض ايطاليا الآن الى أولى غرامات وعقوبات تفرض عليها بموجب قوانين الميزانية وتضع كل ديون إيطاليا في خطر مع سلامة منطقة اليورو في حال أزمة في وقت يعاني منه ذلك البلد من رابع أكبر ديون سيادية في العالم.

دور ماريو دراغي

ولحسن الحظ فإن رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي ايطالي الجنسية وسبق له أن برهن في الماضي عن رغبته في شراء كميات كبيرة من الديون. وبحسب هارولد جيمس وهو مؤرخ في جامعة برينستون متخصص في الشؤون الأوروبية فإن ما تظهره حالتي ايطاليا والمملكة المتحدة حقاً هو «مدى استحالة محاولة الخروج من الاتحاد الأوروبي والعواقب المحتملة التي يمكن أن تنجم عن محاولة القيام بذلك».

ومن هذا المنطلق قد لا يكون ذلك مصدر قلق فظيع بالنسبة الى العالم الخارجي باستثناء كونه يحدث كله في وقت تباطؤ اقتصادي وازدياد قوة الجناح اليميني الشعبوي الذي يمكن أن يسهم في مزيد من تمزيق الاتحاد الأوروبي على الصعيد السياسي. وينسحب ذلك بشكل دقيق على ألمانيا التي تعتبر أكبر دولة أوروبية على الصعيد الاقتصادي والتي سبق لها أن أنقذت اليونان بدفع من المستشارة أنجيلا ميركل وحولت حزب البديل اليميني المتطرف في ألمانيا الى لاعب رئيسي في الساحة السياسية.

وبحسب المعلق الألماني ستيفان ريختر فإن موقف برلين في الوقت الراهن يمكن ايجازه على النحو التالي: اذا أرادت بريطانيا وايطاليا الخروج من الاتحاد الأوروبي فلن نتمكن من منعهما.

ويتمثل الجانب الأسوأ في أن هذا يحدث في وقت تقوم فيه قوى اليمين بشن حملات مؤثرة فيما تبتعد القوى المعتدلة عن المسرح.

دول أوروبا الشرقية

وتجدر الاشارة الى أن وجود اليمين المتطرف في السلطة قد اقتصر حتى الآن على دول أوروبا الشرقية مثل بولندا وهنغاريا. ولكن ذلك لم يعد الحال: ونصف حكومة ايطاليا الائتلافية من جناح اليمين المعارض للهجرة. وفي المقابل تمت محاصرة القوى المعتدلة وقد أعلنت مستشارة ألمانيا في الآونة الأخيرة أنها سوف تتنازل عن قيادة حزبها في ألمانيا كما أن رئيسة الوزراء البريطانية عاجزة عن التحرك وفي فرنسا كان ينظر الى الرئيس ايمانويل ماكرون بعد فوزه في انتخابات عام 2017 على أنه من جناح الوسط في أوروبا وقد تراجعت شعبيته بشدة فيما تستعيد منافسته مارين لوبان دورها في استطلاعات الرأي.

موقف ترامب

وطبعاً يحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الوضع، ويشجعه علانية. وكان ماكرون انتقد في كلمة له في باريس الأسبوع الماضي في الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى وبصورة غير مباشرة اعلان ترامب أنه «وطني» كما أن ترامب دعا قوى جناح اليمين في فرنسا الى اطاحة ماكرون.

وقال الرئيس الأميركي في تغريدة على تويتر إن «المشكلة هي أن ماكرون يعاني من هبوط شعبيته في فرنسا الى 26 في المئة ومن معدل بطالة يصل الى حوالي 10 في المئة». ولا بد من الاشارة الى أنه لا توجد دولة أكثر وطنية من فرنسا وهي فخورة جداً بشعبها.

ويذكر أن مارين لوبان وصفت خلال فشلها في حملة انتخابات عام 2017 انتخاب ترامب بأنه «حجرة اضافية في بناء عالم جديد».

أو ربما في كومة واسعة من الركام – وهذا ما سوف تكشف عنه الأشهر المقبلة.