تيري إيغلتن يدرس تطوّر مفهوم الثقافة
ما يكرسُ خصوصية أي مجال هو إنشاء معجمهِ الخاص من خلال مفردات وعبارات تخدمُ غرضه، وقد تختلفُ دلالةُ المفردةِ وفقاً للمجال والسياق الذي تتداولُ فيه. غير أن ثمة ألفاظاً لا تغيبُ عن الحقول المعرفية بقطع النظر عن تباينِ مناهجها، ولا يُمكنُ أن تجدَ لها بديلاً. بالطبع فإنَّ الثقافة من بين أكثر المفردات شيوعاً في مُختلفِ المستويات وتتغلغل في الأحاديث اليومية كما تُستخدمُ في الوسائط الأكاديمية والنخبوية.من الواضح أن هذا التمدد الملفوظي ليس إلا أحد أوجه مفهوم الثقافة المُتعالق مع أشكال الحياة بتشعباتها، أمر يستدعي الحفر في الجذور ومتابعةِ تطور مفهوم الثقافة وما تعنيه من دلالات عبر التاريخ والاختلاف بينه وبين الحضارة. إذ يرى الشاعر البريطاني ت.إس. إليوت بأن الثقافة هي المعطى الذي يجعل الحياة مستحقة للعيش، وثمة من لا يفصلُ بين مفهومي الحضارة والثقافة بوصفهما تعبيراً عن المحتوى المعرفي والمُعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات، كما يوجدُ طرح آخر يضعُ مفهوم الثقافة في إطار القيم المعنوية ويقرنُ لفظ الحضارة بالجانب المادي، ما يعني وجود رؤى غير متوافقة فيما يتعلقُ بهذا الموضوع. وبدورهِ أراد الكاتب البريطاني المعروف تيري إيغلتن تتبع أساس تلك الإشكاليةِ ودراسة مفردة الثقافة ودلالاتها كما وردت في مؤلفات نخبة من المفكرين في كتابه المعنون بـ«الثقافة» الصادر حديثاً من دار «المدى» بترجمة الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمي.
صرعة فكرية
يتناول تيري إيغلتن في فصل آخر من كتابه موضوعة التعددية الثقافية بوصفها سمةً بارزةً لمرحلة ما يسمى بمجتمعات ما بعد الحداثةِ الهجينة، نتيجة هيمنة الرأسمالية التي تعتمدُ على نمط إنتاجي غير مُتجانس لا يُنكر صاحب الكتاب أهمية التعددية بل هي جديرة بالرعاية والتعهد إلى أن تُصبحَ أمراً بديهياً. ولكن علينا الإقرار في الوقت نفسه بأنَّ ليس كل أشكال التجانس أمر مُستهجنُ يجبُ محاربته ونعته بالأُصولية والتطرف. من الأفضل أن يكون هناك إجماع على إدانة وشجب الإساءة الجنسية للأطفال، بل إن البشرية كما يرى إيغلتن أحوج ما تكون إلى الإجماع عندما تحدقُ بها الظواهر الخطيرة. ولا وجود لفضيلة ذلك التنوع الذي يبرر غرق قوارب المُهاجرين على السواحل باسم حرية الرأي. فبرأي إيغلتن، إنَّ صرعة ما بعد الحداثة تُحول الكائنات البشرية إلى مجرد مخلوقات تقتاتُ على الاختلاف والتمايز، وأنَّ أية إشارة إلى الخصائص الإنسانية المشتركة تثير حساسية وتعتبرُ كبح جماحٍ لاختلافات ثقافية. بمعنى أنَّ الاعتقاد بوجود أسس عالمية لوجود إنساني وهم محض. عطفاً على كل ما سبق، فإنَّ تيري إيغلتن يميزُ بين الثقافة والآيديولوجيا وأبان خطأ الخلط بين مفهومين لأنَّ الثقافة تُمثل القيم والعادات والتقاليد فيما الآيديولوجيا هي محاولة لتحنيط الممارسات الرمزية والقيم في مرحلة تاريخية معينة. وفي مفاصل كتابه يستندُ المؤلفُ إلى أطروحات الفلاسفة والمفكرين السياسيين، من بينهم إدموند بيرك الذي عارض سياسة بلاده بريطانيا في الهند وفريدريك شيلر وأوسكار وايلد ولودفيغ فتغنشتاين وكارل ماركس وكلود ليفي شتراوس الذي رأى ضرورة تشرب ثقافة أي فرد من ثقافات أخرى. ويختمُ إيغلتن دراسته بنقد الرأسمالية وإظهار الوسائل التي اعتمدتها لتدجين الثقافة وقتل النزعة النقدية، وذلك بدلاً من أن تكونَ الثقافةُ أداةً للجم السلطة صارت متورطةً في تضخيمها وتوفر لها عوامل السيطرة.يُذكر أن المترجمة أضافت مقدمة إضافية إلى الكتاب، وهي تشير إلى مؤلفات صاحب «حارس البوابة» واشتغاله في المجال الأكاديمي في الجامعات البريطانية، وقد ذاعت شهرته بوصفه أكاديمياً ماركسياً موضحةً أنَّ كتابه «ما بعد النظرية» يُمثِلُ انعطافة ثورية في فكر هذا اليساري العتيد. ولفتت إلى نشأة المؤلف وأهمية هذا الكتاب وأسلوب إيغلتن المُطعم بالدعابة والسُخرية. وفضلت لطفية الدليمي أن ترفق الكتاب بمقابلة مع مؤلفه، إذ يعلقُ الأخيرُ في إطار الحوار على الأفكار المُنبسطة على مساحة إصداره الجديد. وأكثر ما يُلفت النظر في الحوار هو كلام إيغلتن حول عدم الالتفات إلى الجوانب السلبية للثقافة، ذاكراً أنَّ الثقافة قد تكون أمراً أشدَّ خطورةً، مع ذلك لا يزال يرى من يختزل الثقافة على إبداعات موسيقية وفنية وأدبية.