ما يكرسُ خصوصية أي مجال هو إنشاء معجمهِ الخاص من خلال مفردات وعبارات تخدمُ غرضه، وقد تختلفُ دلالةُ المفردةِ وفقاً للمجال والسياق الذي تتداولُ فيه. غير أن ثمة ألفاظاً لا تغيبُ عن الحقول المعرفية بقطع النظر عن تباينِ مناهجها، ولا يُمكنُ أن تجدَ لها بديلاً. بالطبع فإنَّ الثقافة من بين أكثر المفردات شيوعاً في مُختلفِ المستويات وتتغلغل في الأحاديث اليومية كما تُستخدمُ في الوسائط الأكاديمية والنخبوية.من الواضح أن هذا التمدد الملفوظي ليس إلا أحد أوجه مفهوم الثقافة المُتعالق مع أشكال الحياة بتشعباتها، أمر يستدعي الحفر في الجذور ومتابعةِ تطور مفهوم الثقافة وما تعنيه من دلالات عبر التاريخ والاختلاف بينه وبين الحضارة. إذ يرى الشاعر البريطاني ت.إس. إليوت بأن الثقافة هي المعطى الذي يجعل الحياة مستحقة للعيش، وثمة من لا يفصلُ بين مفهومي الحضارة والثقافة بوصفهما تعبيراً عن المحتوى المعرفي والمُعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات، كما يوجدُ طرح آخر يضعُ مفهوم الثقافة في إطار القيم المعنوية ويقرنُ لفظ الحضارة بالجانب المادي، ما يعني وجود رؤى غير متوافقة فيما يتعلقُ بهذا الموضوع. وبدورهِ أراد الكاتب البريطاني المعروف تيري إيغلتن تتبع أساس تلك الإشكاليةِ ودراسة مفردة الثقافة ودلالاتها كما وردت في مؤلفات نخبة من المفكرين في كتابه المعنون بـ«الثقافة» الصادر حديثاً من دار «المدى» بترجمة الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمي.
على رغم خروج مفردة الثقافة من الحلقات الأكاديمية والتحامها مع القنوات المُختلفة، فإن هذا لا يعني أنَّ مدلولاتها أصبحت مفهومةً وأنَّ ما تؤشر إليه واضح بالنسبة إلى الجميع من دون لبس، ولا يتحملُ وجهات النظر المُتعددة.تأتي الثقافة، حسب رأي تيري إيغلتن، في المرتبة الثانية أو الثالثة ضمن المفردات الأكثر تعقيداً في اللغة الإنكليزية، والحال هذه يذكرُ الكاتبُ أنَّ ثمة أربعة معانٍ رئيسة يصحُ وضعها شرحاً لمفردة الثقافة، تراكماً للعمل الذهني والفني أو الصيرورة التي يحصلُ بها الارتقاءُ الروحي والذهني أو القيم والعادات والمعتقدات والشعائر الرمزية أخيراً تعني الثقافة الطريقة الكلية المُعتمدة في الحياة.بناءً على ما يُفهمُ من الجملة الأخيرة، فإنَّ الثقافة تضمُ الشعر والموسيقى إلى جانب صنف الطعام ونوع الرياضة وحتى شكل الدين والطقوس التي يمارسها اللابيون. وقد تجدُ مشتركات بين هؤلاء وغيرهم من الشعوب الأخرى في الملبس والمأكل، وذلك يُبين توسيع دلالة مفهوم الثقافة في ما يتعلق بالشق الحياتي. ويُضيف إيغلتن حول هذا الموضوع زيادةً، إذ يفرق بين الثقافة كطريقة الحياة. على هذا المستوى تعني الثقافة تكرار ما عمله أسلافك والتمسك بما اعتنقوا به. أما على المستوى الفني فتتخذُ الثقافة معنى طليعياً، وهذا الفصل بين مستويين يتفق مع ما ذهب إليه وليامز من التمييز بين الثقافة لدى الطبقة العاملة وبين الثقافة كاهتمام فني. في المُقابل، يرى الفيلسوف الألماني جوهان غوتفريد هيردر مفهوم الثقافة في سياق أكثر شمولية، بحيثُ تنفتحُ على التجارة والصناعة والتقنية بقدر ما تعبرُ عن العواطف والقيم. ومن خلال ما يعرضه مؤلفُ «النقد والآيدولوجيا» بشأنِ مفهومي الحضارة والثقافة، ندركُ بأنَّ كل ما يخصُ مسألة التقاليد والقيم والدين تُعبرُ عنه مفردة الثقافة بينما تتجلى الحضارة في المظهر المادي للمجتمع.ونحنُ نقولُ ذلك، نفترض وجود سؤال لدى المُتابع وهو أين الثقافة من عالمٍ تداهمه الماديات والسلعُ، وتسوده سطوة المظاهر على حد تعبير لينين؟ يُجيبُ إيغلتن بأنَّ الحضارة الصناعية أوجدت بيئة مؤاتية لولادة مفهوم الثقافة، ولولا تغول الماديات لم تصبح الثقافةُ واسعة الاستخدام. ويضيف كأنه لما جنحت الحضارةُ في طابعها المادي أكثر فكانت الثقافة تتبدى أشدَّ رغبةً للتسامي عن الدينوية. فضلاً عن ذلك، فإنَّ الثقافة مُفردة وهي مشتقة من الطبيعة، في وقت تشيرُ الحضارة إلى عالم مصنوع مشوه للطبيعة.صرعة فكرية
يتناول تيري إيغلتن في فصل آخر من كتابه موضوعة التعددية الثقافية بوصفها سمةً بارزةً لمرحلة ما يسمى بمجتمعات ما بعد الحداثةِ الهجينة، نتيجة هيمنة الرأسمالية التي تعتمدُ على نمط إنتاجي غير مُتجانس لا يُنكر صاحب الكتاب أهمية التعددية بل هي جديرة بالرعاية والتعهد إلى أن تُصبحَ أمراً بديهياً. ولكن علينا الإقرار في الوقت نفسه بأنَّ ليس كل أشكال التجانس أمر مُستهجنُ يجبُ محاربته ونعته بالأُصولية والتطرف. من الأفضل أن يكون هناك إجماع على إدانة وشجب الإساءة الجنسية للأطفال، بل إن البشرية كما يرى إيغلتن أحوج ما تكون إلى الإجماع عندما تحدقُ بها الظواهر الخطيرة. ولا وجود لفضيلة ذلك التنوع الذي يبرر غرق قوارب المُهاجرين على السواحل باسم حرية الرأي. فبرأي إيغلتن، إنَّ صرعة ما بعد الحداثة تُحول الكائنات البشرية إلى مجرد مخلوقات تقتاتُ على الاختلاف والتمايز، وأنَّ أية إشارة إلى الخصائص الإنسانية المشتركة تثير حساسية وتعتبرُ كبح جماحٍ لاختلافات ثقافية. بمعنى أنَّ الاعتقاد بوجود أسس عالمية لوجود إنساني وهم محض. عطفاً على كل ما سبق، فإنَّ تيري إيغلتن يميزُ بين الثقافة والآيديولوجيا وأبان خطأ الخلط بين مفهومين لأنَّ الثقافة تُمثل القيم والعادات والتقاليد فيما الآيديولوجيا هي محاولة لتحنيط الممارسات الرمزية والقيم في مرحلة تاريخية معينة. وفي مفاصل كتابه يستندُ المؤلفُ إلى أطروحات الفلاسفة والمفكرين السياسيين، من بينهم إدموند بيرك الذي عارض سياسة بلاده بريطانيا في الهند وفريدريك شيلر وأوسكار وايلد ولودفيغ فتغنشتاين وكارل ماركس وكلود ليفي شتراوس الذي رأى ضرورة تشرب ثقافة أي فرد من ثقافات أخرى. ويختمُ إيغلتن دراسته بنقد الرأسمالية وإظهار الوسائل التي اعتمدتها لتدجين الثقافة وقتل النزعة النقدية، وذلك بدلاً من أن تكونَ الثقافةُ أداةً للجم السلطة صارت متورطةً في تضخيمها وتوفر لها عوامل السيطرة.يُذكر أن المترجمة أضافت مقدمة إضافية إلى الكتاب، وهي تشير إلى مؤلفات صاحب «حارس البوابة» واشتغاله في المجال الأكاديمي في الجامعات البريطانية، وقد ذاعت شهرته بوصفه أكاديمياً ماركسياً موضحةً أنَّ كتابه «ما بعد النظرية» يُمثِلُ انعطافة ثورية في فكر هذا اليساري العتيد. ولفتت إلى نشأة المؤلف وأهمية هذا الكتاب وأسلوب إيغلتن المُطعم بالدعابة والسُخرية. وفضلت لطفية الدليمي أن ترفق الكتاب بمقابلة مع مؤلفه، إذ يعلقُ الأخيرُ في إطار الحوار على الأفكار المُنبسطة على مساحة إصداره الجديد. وأكثر ما يُلفت النظر في الحوار هو كلام إيغلتن حول عدم الالتفات إلى الجوانب السلبية للثقافة، ذاكراً أنَّ الثقافة قد تكون أمراً أشدَّ خطورةً، مع ذلك لا يزال يرى من يختزل الثقافة على إبداعات موسيقية وفنية وأدبية.