ماذا يحدث في الخليج؟ وماذا يحدث لأهله؟ أين رحلت تلك المشاعر القومية أو الإنسانية؟ ما الذي حدث للتعاطف والتلاحم والمحبة؟ مثل هذه الأسئلة كثيرا ما تتردد ليس خلال اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات فقط، بل على شبكات التواصل كلها، الأسئلة الكثيرة هي انعكاس لمجموعة من التصريحات والرسائل المختصرة والمواقف التي يرسلها بعض الخليجيين والخليجيات على مواقعهم في "تويتر" أو "فيسبوك" أو "الإنستغرام".
عند تلقي الأسئلة لا يستطيع الخليجي أيضا إلا أن يردد أن هؤلاء لا يمثلون الأغلبية العظمى، بل على العكس هناك أغلبية قد لا يكون صوتها بنبرة العلو نفسها، ولكنها موجودة وهي لا تستطيع أن ترى نفسها سوى ضمن محيطها الأكبر والدوائر المتسعة من التلاقي مع البشر في كل مكان، وهذا رغما عن الجهود الكبيرة التي تقوم بها بعض الأجهزة أو الشخصيات أو الجهات أو... أو! لرسم خط في الرمال المتحركة يفصل بين أبناء الخليج وأهلهم الأقرب لهم في المحيط العربي الواسع الذي هو كقوس القزح بتلاوين وتنوعات وأحلام وتطلعات قد تبدو متعددة، لكنها ليست مختلفة كثيراً عن أحلام الخليجيين والخليجيات البسطاء جدا. أولئك الذين لم يدخلوا حلبة المنافسة لإثبات أنهم حضاريون "متمدنون" ومتماشون مع الموضة العالمية في تقبل الآخر، والجميع يعرف دون مجهود كبير أن هذه العبارة الفضفاضة تستخدم للتعبير عن تقبل الصهاينة والإسرائيليين أكثر من تقبل المواطن الخليجي والعربي المختلف في الطائفة أو الدين أو العقيدة أو الفكر أو حتى توجهاته وتوجهاتها الجسدية! نعم إننا متسامحون جدا في مدن الضباب لكننا منغلقون بالحماس نفسه في مدن "الطوز" والأبراج العالية والتسابق فيما بيننا ومنذ سنين طوال على الأكبر والأوسع والأعمق، مثل هذا كمثل انعكاسات الغيم على زجاج ناطحات السحب الكبيرة في صحراء الخليج والجزيرة، أكثر هشاشة من الرسم فوق الماء.بعض الخليجيين ومنهم من يطلق عليهم "مفكرون" أو أساتذة جامعات ومن حاملي الشهادات المطرزة بحرف الدال التي أصبحت أكثر انتشارا من عدد المركبات في شوارع ضواحينا، بعضهم يردد "لماذا يكرهوننا" في محاولة لطرح ذاك السؤال نفسه الذي طرحه بعض الأميركيين بعد أحداث 11 سبتمبر، أو حتى بعد التفجيرات المتكررة هنا وهناك، أو الانتقادات والملاحظات على سياسة الإدارة الأميركية، وهنا سقط الخليجي أو يعمل بعضهم على إخضاعه لغسيل للدماغ يصور له أن أي انتقاد للسياسة الخارجية لحكومته تعني كرها وحقدا وحسدا من العرب تجاه الخليجيين الذين ينعمون بالخير والنعمة! منطق لا يمكن وصفه إلا بالمنطق المريض والناقص وغير القادر على التمييز. ويتزامن مع هذا الخطاب محاولة من البعض لتصوير الخليجي على أنه المواطن السعيد المحظوظ أو "السوبر إنسان"! أو أنه المواطن "المدلل"، وهذه نظرة فيها شيء من السطحية إن لم يكن قلة الفهم بالواقع الخليجي. ومثل هذه النظرة والفكر لا بد أن تأتي بانعكاسات لا يمكن أن تكون إيجابية على عالم يعمل على التقارب وتقليص الفجوات بين الثقافات والشعوب وإلغاء الحدود المصطنعة أصلا، وتحويلها إلى جسور للحضارة والثقافة التي تقرب لا تفرق، توحد لا تمزق، خصوصا إذا كان ما سيتم تمزيقه هو مهلهل أصلا، ولم يعرف الوحدة إلا في نفحات متقطعة من تاريخه الحديث منذ الاستقلال عن الاستعمار، رغم أن كلمة استقلال لا تبدو هي الأدق في وصف حال بعضنا أو ربما كلنا!عندما يفكر أحد الحاملين للألقاب و"الأختام" بتكرار الجمل المنمقة المستقاة من كتب علم الاجتماع وعلم الإنسان، حيث يوجه خطابا للعرب بأن الخليجيين قادمون، وأنكم قد سيطرتم على المنطقة بما فيه الكفاية حتى دمرتم ومزقتم هذه المنطقة أكثر. وعندما يعيد آخر أو أخرى "المعاير" بأننا دفعنا لهم هكذا مبلغ ولم تتحرر الأرض لأنهم صرفوها على بذخ قيادتهم بدلا من الشعب المحتل، وعندما تردد سيدة بأنهم جاؤوا للرزق فماذا ينتظرون الآن؟ دون أن تتحلى بصفات الخليجي الأصيل الذي يذكر معروف العرب، كل العرب الذين ساهموا في التعليم والثقافة وبناء الدولة الحديثة في معظم دول الخليج إن لم يكن كلها. عندما تتكرر مثل هذه الخطابات التي تخلق الانشقاقات فليتأكد الجميع أنها لن تقف عند الحدود الفاصلة بين الـ"نحن" والـ"هم"، بل ستصل إلى تقسيم الـ"نحن" أيضا إلى جزئيات صغيرة من الطفيليات التي قد تطفو بعض الوقت على السطح لكنها عاجزة عن أن تخلق وطناً. * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.
مقالات
خط في الرمال المتحركة
26-11-2018