نقطة : من أم كلثوم لجابر المبارك
أتذكر أيام الدراسة الجامعية، حين كنا ندخل في نقاشات وجدالات مع زملائنا صغار "الإخوانچية" حول كل شيء يتعلق بالشأن الطلابي والعالم الخارجي، من الاختلاط وحتى التدخين وما بينهما، الحياة بكل اتساعها وتنوعها. وبحكم المرحلة العمرية كانت الجدالات بطبيعتها ساخنة يخالطها بعض السفه والعناد والشغف بإثبات وجهة النظر وخطأ الآخر، مع بعض الفواصل التكفيرية من جانبهم، فقد كانوا يحرمون كل شيء، لأن هذا ما نقلوه عن كبرائهم ومرشديهم، وكنا نحلل كل ما كانوا يحرمونه لأننا تعلمنا أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأثبتت السنين وكما ترون من حولكم صحة وجهة نظرنا في كثير من المسائل التي كانوا يحرمونها، ليس بسبب حكمتنا الزائدة وبعد نظرنا الثاقب، ولكن بسبب مبالغاتهم الزائفة غالباً، فمن بين أشهر المواضيع الساخنة مثلاً وأكثرها جدلاً آنذاك كان موضوع سماع الأغاني، التي كانوا يسمونها المعازف، والتي سيُصبّ بأذن من يسمعها الرصاص، فهناك قولان دائماً، وقال فلان ورد فلان، والاختيار بينهما حسب الحاجة، وكانت رصاصة التكفير جاهزة دائماً لمخالفيهم ولأتفه الأسباب. ثم تمر الفصول الدراسية، وكنا نكتشف مع مرور الوقت والعشرة والزمالة وسقوط الكلفة أن أغلب من يجادلوننا في هذا الأمر كانوا يخبئون أشرطة أم كلثوم وفيروز وغيرهما في أدراج سياراتهم، وتحت مقاعدها، حتى لا يراها أحد ولينطربوا بها منفردين، الآن كلهم طبعاً صاروا كباراً وتخلوا عن تحفظاتهم وحلقوا لحاهم وبعضهم ينتظر، ومازالت ثقافة نقد الذات معدومة لديهم كحال جميع العرب والمسلمين، حفظهم الله، فلن تسمع أبداً أحدهم يعترف بخطئه أو سوء تقديره أو يعتذر عن أحكامه التكفيرية بحق زملائه على الأقل، فهو كفّرني لأني كنت أخالفه، رغم أنه مارس اليوم ما كان يكفّرني لأجله آنذاك، لكني ما زلت أنا الكافر أو العاصي بنظره في أحسن الأحوال، وهو مازال يرى نفسه المسلم التقي الورع الذي من حقه فقط إذا اجتهد وأخطأ أن يأخذ أجراً واحداً.من شب على شيء شاب عليه، ومن اعتاد شيئاً مات عليه، وهذا "الإخواني" الكبير الذي يتبوأ مقعده من المجلس هو صغير ذاك اليوم البعيد القريب، ذات التربية الحزبية ستؤدي بالضرورة إلى ذات السلوك المرائي المنافق، مع تغير نوع القضية والمصلحة فقط، يعلن موقفاً مبدئياً ويُعلي السقف ويحارب من يخالفه، ثم يساوم ويبيع من وراء الكواليس، فمن كان يخوّن ويرهب مؤيدي ودعاة الصوت الواحد هو ذاته من نزل لمجلسهم وتمسك بحصانتهم وترك زملاء النضال يضربون كفاً بكف في المنافي والسجون، ومن يطالبون برئيس وزراء شعبي لتسهل محاسبته وتغييره هم من يخالفون الأعراف ويُعقّدون استجواب الرئيس غير الشعبي، أملاً بعقد صفقة قد تنقذ رقاب رفاق حزبهم، عادي عادي، فالناس ذاكرتها ضعيفة والجديد سينسيهم القديم والأيام حبلى بالتوائم.
نعرف أن هذه سياسة، وكل شيء فيها متاح وممكن، لكنك كنت تتعالى وتدعي التفوق الأخلاقي والاختلاف عن العلمانيين والليبراليين والاشتراكيين وبقية الملاحدة و"الكفار"، باسم الدين والشريعة، وأنت بأفعالك ومواقفك تلك لوثت سمعة الدين ولم تنظف نفسك، فلو أنك استمعت يا عزيزي منذ البداية لأم كلثوم بلا مزايدات فارغة، ولم تخبئ أشرطتها تحت المقاعد، لما اضطررت اليوم لأن تسمع كلام الحكومة وتبيع القضايا من تحت الطاولات، رغماً عنك.