من فساد إلى فساد
ما حصل لم يكن بسبب المقاولين الفاسدين فحسب، إنما بسبب الإداريين والمراقبين والمشرفين الذين شاركوهم الفساد، إن لم يكن مباشرة، فمن خلال التفريط والتقصير في مسؤوليات الرقابة والإشراف والاستلام، والأنكى من ذلك أن هؤلاء الإداريين والمراقبين والمشرفين هم من الكويتيين الذين يتباكون في الديوانيات والسوشيال ميديا على ما آلت إليه أحوال البلد!
لا أظن أن أحدا منا لم يطله الضرر من هطول الأمطار الغزيرة، وما نتج عنه خلال الفترة الماضية، سواء أكان الضرر كبيرا، كغرق بيت أو تلف بضاعة أو تعطل أعمال مهمة، أو ضئيلا كتكسر زجاج سيارة من جراء الحصى المتطاير في الشوارع التالفة، أو أقل منه كتعرض الشخص للزحمة الخانقة يوميا بسبب حركة المرور المتباطئة في الطرق المتضررة. لكن هذا الأمر ليس بالمستغرب، فهي حال المجتمعات اليوم، والناس شركاء في المعاناة مما يلحق بمجتمعاتهم وبناها التحتية وخدماتها العامة، وبمقدار جودتها وسوئها تتأثر معيشتهم إيجابا وسلبا.لهذا السبب من حق الفرد أن تكون له كلمة فيما يجري في مجتمعه، تماما مثلما أن عليه واجب الالتزام بالقوانين والنظم واللوائح التي تضعها الدولة وتفرضها مؤسساتها، وذاك الذي يُحجِم، دون سبب قاهر، عن ممارسة حق الكلام والرفض قد رضي بأن يكون رقما هامشيا في المجتمع، وإن خدعه توافر الوظيفة والمسكن والمأكل والمشرب، وعندما أقول، حق الكلام والرفض، فلا أعني أحاديث الديوانيات ورسائل السوشيال ميديا، إنما ذاك الكلام المؤثر عبر فعاليات ومؤسسات المجتمع المدني الحقيقية التي لا تملك إلا أن تستمع إليها السلطة.أزمة هطول الأمطار كشفت عن الكثير من أشكال الفساد والضعف الإداري في مؤسسات الدولة المرتبطة بالشأن، وغرست إصبعها من جديد في الجرح المتقيح لواقع الفساد السياسي الذي نعيشه منذ عقود، وما عاد ينكره إلا فاسد مشارك أو مطبل مستفيد أو مكابر!
نحن، يا سادتي، مهما حاولنا المجاملة، في ابتلاء كبير في هذا البلد. وفرة مالية ضخمة وقعت في أحضان فساد سياسي ضارب، بقطبيه الحكومي والبرلماني، في ظل ضعف إداري صارخ، عسير على العلاج لغياب الإرادة الصادقة، في مقابل حالة شعبية غافلة خانعة، ساهمت وتساهم من حيث تدري ولا تدري في تعزيز الحال، بسلبيتها وصمتها وسرعة اختطافها عن القضايا المصيرية ولهثها وراء تلبية متطلباتها الفردية على حساب المصلحة العامة. وليس قولي هذا من السلبية والتشاؤم في شيء، بل هو من صميم الإيجابية، فالاعتراف بالاعتلال والتشخيص السليم له هما أول الخطوات نحو المعالجة السليمة، وأما المكابرة والإنكار وتغيير الموضوع بزعم الإيجابية والتفاؤل فليست سوى خداع و ضحك على الذقون والحال على ما هي عليه.كلفت أزمة هطول الأمطار الدولةَ عشرات وربما مئات الملايين من الدنانير، ضاعت بين ليلة وضحاها، وسيتكلف العلاج والإصلاح مثلها وربما أكثر. والمضحك المبكي أن أغلب هذه الأموال التي هُدِرت بسبب الفساد وسوء الإدارة والتقصير ستذهب مجددا خلال مرحلة الإصلاح القادمة إلى الجيوب الفاسدة نفسها وتحت إشراف الإدارات السيئة نفسها وبرعاية المسؤولين المقصرين ذاتهم. ما حصل لم يكن بسبب المقاولين الفاسدين فحسب، إنما بسبب الإداريين والمراقبين والمشرفين الذين شاركوهم الفساد، إن لم يكن مباشرة، فمن خلال التفريط والتقصير في مسؤوليات الرقابة والإشراف والاستلام، والأنكى من ذلك، وهو ما يتحاشى الجميع الحديث عنه، أن هؤلاء الإداريين والمراقبين والمشرفين هم من الكويتيين ذاتهم الذين يتباكون في الديوانيات والسوشيال ميديا على ما آلت إليه أحوال البلد!على كل حال، ستكون مزاعم الحكومة بأنها تريد القضاء على الفساد، وأنها جادة في المعالجة، على المحك، خلال مرحلة معالجة أضرار هطول الأمطار، فهذه المشاريع الجديدة ستحتاج إلى من يشرف عليها ويراقب جودتها ويستلمها، وهي مؤهلة لأن تكون مستنقع فساد وهدر مالي ضخم جديد ما لم تضبط.كلها أيام معدودة وستظهر الحقيقة.