تدعي بعض الأطراف الخارجية أن تحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين لا يمكن أن يتم إلا بالتبعية المطلقة لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، والخضوع لعبودية التطبيع مع ما تمثله هذه التبعية من تمييز واستغلال، وتسعى هذه الأطراف عن قصد لتحميل مسؤولية المعاناة من النكبة والاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي، للفلسطينيين أنفسهم، بهدف تبرئة الاحتلال، ويذكرنا ذلك بمستوى الانحطاط الخلقي لمن يحاول تحميل المرأة المغتصبة مسؤولية اغتصابها بهدف تبرئة المغتصب المجرم.

لا يحتاج الإنسان أن يكون بروفيسورا في علم الاقتصاد ليدرك أن التنمية الاقتصادية والتحسّن الاقتصادي الحقيقي لأي بلد، يتطلبان أن يسيطر البلد وأبناؤه على أرضهم، ومواردهم الطبيعية، ومياههم، وحدودهم، وتجارتهم، وصادراتهم ووارداتهم، وعلى الدخل المتحقق من ضرائبهم، وأن تكون لهذا البلد عملته الوطنية، وبنكه المركزي، وحرية جلب الاستثمارات والمستثمرين، وأن يحدد هو بنفسه قيمة ضرائبه، بما فيها ضريبة القيمة المضافة، دون إملاء من أي طرف مجاور.

Ad

وإذا أردنا أن نُفَصل أكثر فلا يمكن تصور تحسن اقتصادي مستقر وذي ديمومة دون حرية التنقل، وحرية نقل البضائع والمنتجات بين أجزاء البلد ومدنه وقراه، ودون حرية الزراعة في الأرض، وحرية إنشاء المصانع والشركات، وحرية الصيد في البحر، كما لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة دون حرية في إنشاء المؤسسات التعليمية، والخدمات الصحية وأنظمة الضمان الاجتماعي في كل أراضي البلد دون قيود.

فعن أي تنمية اقتصادية يتحدث الداعون إلى التطبيع، وغزة محاصرة بالكامل ومقطوعة بقوة سلاح الاحتلال عن الضفة، والضفة نفسها مقطعة إلى 224 جزيرة، معزولة ومجزأة بمئات المستعمرات وبجدار الفصل العنصري، وبأكثر من ستمئة حاجز، وعندما تكون أهم مدينة في البلد، أي القدس محاصرة ومحرمة على 90% من سكانه؟

وأي تنمية وتحسن اقتصادي يمكن الحديث عنهما لأهالي غزة الذين تعاني 95% من مياههم من التلوث والملوحة، أو لأهل الضفة الذين يسلب الاحتلال الإسرائيلي 84% من مياههم، ويحصر حصة الفلسطيني بـ50 مترا مكعباً سنوياً، في حين يمنح المستعمر غير الشرعي 2400 متر مكعب سنوياً أي ثمانية وأربعين ضعفا لما يمنح للفلسطيني. ولماذا لا تنصبّ جهود الدوليين الداعين إلى التطبيع على إنهاء هيمنة إسرائيل على 62% من الضفة الغربية المسماة مناطق (C)، والسماح للاقتصاد الفلسطيني بإنشاء المزارع والمصانع والجامعات والعيادات، ومراكز التطوير التكنولوجي فيها بدل تكريسها لتوسيع المستعمرات الاستيطانية غير الشرعية؟ ولماذا لا يجبرون إسرائيل على إطلاق يد الفلسطينيين لاستثمار حقول الغاز والنفط المكتشفة في أرضهم ومياههم لتحسين أوضاعهم الاقتصادية؟

الشعب الفلسطيني المتعلم أذكى من أن يُستخف بفطنته، أو يُستهان بوعيه وعلمه، ونحن نعرف أن الاقتصاد الإسرائيلي يفتقر للقوة العاملة، ولذلك يستعبد عشرات آلاف العمال الفلسطينيين ويميز ضدهم، وهو قادر على دفع أجور أعلى مما يُدفع لهم في الأراضي المحتلة، لأنه أولاً يستغل أرضنا ومياهنا وتجارتنا ويتحكم حتى في ضرائبنا، ولأنه يفرض سوقاً موحدة على الأراضي المحتلة، ويجبرنا على دفع الثمن نفسه للبضائع حسب تسعيرة السوق الإسرائيلي، ومثل ما يدفعه الإسرائيليون في حين أن دخل الفرد الإسرائيلي السنوي يزيد على دخل الفرد الفلسطيني بأكثر من خمس عشرة مرة.

كما يجبرنا الاحتلال على دفع ضعف ما يدفعه الإسرائيلي ثمنا للكهرباء، ولمياهنا التي يسرقها، ويلزم الفلسطينيين بدفع أربعة أضعاف ما يدفعه الإسرائيلي مقابل العلاج نفسه إن اضطررنا لإرسال مرضانا لمستشفيات إسرائيلية.

ونحن نعرف أن الاقتصاد الإسرائيلي يعاني اليوم نقصاً ليس في القوة العاملة اليدوية فقط، بل الفكرية أيضاً، ولذلك يريد توظيف خريجينا الذين علمناهم من عرق جبين عائلاتنا، في صناعاته الإلكترونية، عبر شراكات تطبيعية تعطي معظم الربح والتطور له، مقابل استغلال أبنائنا المتعلمين وإعطائهم الفتات مما يتحقق من دخل وأرباح. على من يريد تحسين وضعنا الاقتصادي، أن يساند نضالنا للتحرر من نظام العبودية العنصري الاستغلالي، وأن يساعدنا في إنشاء مصانعنا ومؤسساتنا وجلب استثمارات لمشاريعنا الإلكترونية التي نديرها بأنفسنا، وأن يضمن لنا حرية الاستيراد والتصدير بعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية، ولن أخوض في تفنيد تفاهة الحديث عن التطوير الاقتصادي كبديل للتحرر السياسي، فهذه بدهيات لم يعد أحد يستطيع نقضها.

حرية الإرادة والقرار هي الشرط الأول لحرية الاقتصاد وتحسين الوضع الاقتصادي، والحقائق كانت، وستبقى، أقوى من الأوهام مهما بلغت مكانة من يروج لها.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية