ربما كان السبب تراجع شعبية بوتين السريع عقب تطبيق موسكو بعض إصلاحات نظام المخصصات التي طال انتظارها، أو ربما كان اعتقاد الكرملين أن الوقت قد حان لزعزعة حكومة بوروشينكو العدائية في كييف، التي ستُضطر إلى مواجهة ناخبي أوكرانيا المستائين أساساً في شهر مارس، ولكن بعض النظر عن الأسباب، يمثل قرار روسيا إطلاق أزمة بحرية مع أوكرانيا في نهاية الأسبوع تصعيداً كبيراً في حربها شبه المجمدة مع هذه الدولة، كذلك يسم هذا القرار، على ما يبدو، المغامرة الأكثر جرأة في سياسة حافة الهاوية الروسية منذ تدخل بوتين في الحرب الأهلية السورية عام 2015. لا شك أن انتهاكات روسيا القانون الدولي والسيادة الأوكرانية خطيرة جداً، فقد انتهكت حقوق الملاحة العالمية بمنعها عبور بحر آزوف، وإطلاقها النار على سفن أوكرانية، واعتقالها بحارتها، واستعراضها لهم على شاشات التلفزيون وهم يدلون بما بدا اعترافات قسرية. ردت أوكرانيا من جهتها بإطلاقها وابلاً من المدفعية على مواقع محصنة تحتلها عناصر "انفصالية" مزعومة في شرق البلد وبإعلانها القانون العرفي في المناطق المعرضة للخطر الروسي.
ليس من مصلحة روسيا إشعال صراع مسلح أشمل مع أوروبا، فلا تبدو موسكو في موقع يتيح لها إيصال صراع مماثل إلى خاتمة حاسمة وسريعة، لكن هذا لا يعني أن سلوكاً مماثلاً لن يقود في يوم من الأيام إلى مواجهة كبيرة. يحفل التاريخ بحروب كبيرة لم يشأ أحد خوضها. لكن احتمال نشوب حرب عرضية نتيجة سلسلة متفاقمة من عمليات الرد المتصاعدة بسبب ميول موسكو العسكرية المتهورة يجب ألا يخيف الكرملين وحده، بل يلزم أن يدفع احتمال مماثل أيضاً واشنطن إلى التخلي من شعورها بالرضا والاكتفاء. على الورق، تُعتبر الولايات المتحدة البلد الأكثر قدرة عسكرياً في العالم مع تمتعها بقدرات تكنولوجية لا مثيل لها وقوة لا تُضاهى تتيح لها نشر نفوذها في مناطق بعيدة والحفاظ عليه فترات طويلة.في مطلع الشهر الحالي، نشرت لجنة استراتيجية الدفاع الوطنية مراجعة قامت بها بتفويض من الكونغرس لوضع القوات المسلحة الأميركية، وقد شملت هذه المراجعة أسباباً عدة للقلق. باختصار تستهلك الولايات المتحدة نفسها كقوة عظمى، فنلاحظ اليوم أن ما تدعوه بعبارة ملطفة "الإعسار الاستراتيجي"، الذي تصبح معه الوسائل الأميركية غير كافية لتحقيق غاياتها المنشودة، يقترب بسرعة. لكن الأكثر إحباطاً أن خصومنا بين الدول الأجنبية، الذين يترقبون لحظة ضعف أميركية، قد لا يُضطرون إلى انتظار أزمة إعسار، فقد حذرت اللجنة من أن الولايات المتحدة تواجه خطر "الرزوح تحت ثقل أعبائها في حال اضطر جيشها إلى خوض معارك على جبهتين أو أكثر في آن واحد".صحيح أن اللجنة شددت مراراً على أن "منافسة القوى الكبرى" يجب أن تظل في مقدمة التخطيط الاستراتيجي الأميركي، وأن ردع لاعبين، مثل كوريا الشمالية، وإيران، وروسيا، والصين، عن الاندفاع إلى صراع مباشر مع الولايات المتحدة بسبب حساباتهم الخاطئة يتطلب انتشاراً أمامياً كبيراً، إلا أننا نلاحظ تناقضاً بارزاً، فالانتشار الأمامي مكلف، ويضع الدول المضيفة أمام تعقيدات سياسية. كذلك يتعارض مع مفهوم وزارة الدفاع النمطي عن أن القوات الأقل عدداً والأكثر فتكاً تشكّل استثماراً أكثر قيمة في عصر التهديدات غير المتوازنة واللاعبين من غير الدول، لكن الكلفة التي تترتب على تفكك وسائل الردع تبقى بالتأكيد أكبر من أن نتجرأ على التفكير فيها.بالإضافة إلى ذلك، طرحت اللجنة سلسلة من السيناريوهات المخيفة، القريبة الأجل، والمحتملة، التي تضع الرئيس (الرئيس الحالي) أمام خيار صعب: تفادي مواجهة خسائر فادحة أو الحفاظ على مصالح أميركية لا غنى عنها، لكن كل هذه السيناريوهات شملت أعمالاً انتقامية متعمدة من قوى مثل كوريا الشمالية، وروسيا، والصين، أعمالاً تؤدي إلى تفاقم التوتر وترغم واشنطن على الرد بطريقة متوقعة، إلا أن صراعات مماثلة تكون عادةً غير متوقعة لأنها ليست متعمدة: تكون نتيجة غياب الردع الكافي.يشير هذا التقرير إلى أن انتشار حلف شمال الأطلسي في أوروبا غير كافٍ لردع موسكو عن المخاطرة والسعي إلى تغيير الوضع القائم وتحدي الغرب ليرد. يضعنا ذلك أمام خطر مواجهة صراع نووي، هذا إن لم نذكر الحرب الاستخباراتية، والإلكترونية، والمضادة للأقمار الاصطناعية غير المتوازنة، ومن المؤكد أن قراءة هذا التقرير تولد في نفوسنا الخوف، إلا أنه يستند إلى بعض الافتراضات عن خطر تمثله قوى انتقامية، وقوى تعرف خصوصاً ما تقوم به، ولكن ماذا لو كانت تجهل ما تُقدِم عليه؟* نواه روثمان*«كومانتيري»
مقالات
الخوف من حرب عرضية
02-12-2018