فراغ
تدور الأخبار حول "إحباط مخطط داعشي لاغتيال صالح الفضالة" كما ورد في جريدة الأنباء، حيث تقول الجريدة إنه تم التحقيق مع شاب يبلغ العشرين عاماً من عديمي الجنسية أو البدون بتهمة التواصل مع التنظيم ثم السفر للحصول على سلاح لتنفيذ الجريمة، حيث أشار مصدر الجريدة "إلى أن المتهم ذكر في أقواله أمام جهاز أمن الدولة أنه "أبدى لقادة التنظيم حزنه وإحباطه واستياءه مما وصفه بالظلم الواقع على فئة غير محددي الجنسية في الكويت بسبب السياسة التي يتبعها الفضالة عبر الجهاز المركزي، وحصل على فتوى منهم بتكفيره ووجوب قتله وإراقة دمائه لأنه ظلم واضطهد فئة من المسلمين بما يخالف رسالة الله في الأرض، وحتى يكون عبرة لغيره" حسب قوله" طبعاً، لا قول فصل في القضية إلى أن تنظر فيها المحكمة ويقول القضاء كلمته، ويبقى المتهم بريئا حتى تثبت إدانته، ونحمد الله جميعاً على سلامة السيد صالح الفضالة.لكن تبقى حقيقة أن ما حدث، لو كان حقيقياً، وهو ما ينتظر القول الفصل من القضاء، ليس بعيداً أو غير متوقع. تعالت الأصوات القليلة المتفرقة التي كانت قادرة على رؤية النتاج الكارثي لسياسة الحكومة تجاه قضية البدون مراراً وتكراراً بالتحذير من القادم، من سياسة القهر والتعسف والضغط، من خلق فراغ، فراغ عمل، فراغ هوية، فراغ حياة، فراغ كبير موحد كأنه هوة عميقة لا يمكن، بحكم قوانين الفيزياء والطبيعة، أن يستمر، فالفراغ دوماً ينتظر أي مادة لتملأه. لنتصور أسوأ حالات للشخص البدون، شخص بلا إحصاء، عليه قيد أمني، هناك أوراق تشير الى أصول خارج الكويت ودلائل تشير الى أنه يخبئ أوراقه الرسمية، لنتصور أسوأ صورة للشخص البدون يمكن أن ترسمها الحكومة، ثم لنقيم سياسة الحكومة تجاه هذا الشخص، والذي عوضاً عن إيجاد حل قانوني واقعي يحفظ كرامة هذا الشخص وإنسانيته، رغم كل المآخذ التي يفترض أنها مثبتة عليه، وفي الوقت ذاته يحفظ حق الدولة ويرتب شؤون مواطنيها ومقيميها، نجد الدولة تتبع سياسة "أثبت التهمة على نفسك بنفسك" بترك هذا الشخص يعيش على أرضها بلا فرصة عمل أو وسيلة لتوفير احتياجاته الإنسانية الأساسية، بلا حقوق أو كرامة واللتين يشكل غيابهما وسيلة للضغط أو المعاقبة أو الاثنين معا، بلا حتى فرصة التحصل على أوراق رسمية ليترك بها الدولة مهاجراً، ماذا سيفعل هذا الإنسان حين ينحكر في مأزق كهذا؟ سيكون هذا الشخص مادة طيعة سهلة لكل جهة متطرفة تريد أن تستغل حرمانه ومأزقه. لنقس أثر هذه السياسة على وضع الأغلبية من بدون الكويت، يمتلكون إحصاء 65، لا إثباتات لديهم لأي هوية أخرى سوى "مؤشرات الجنسية" أو "القرائن" التي يقررها الجهاز المركزي من ذاته، مواليد الكويت لا يعرفون غيرها وطنا، لهم الآن أولاد وأحفاد وأولاد أحفاد على أرضها، هؤلاء الذين يشعرون الكويت وطناً في حين أن جهازها المركزي يدفع بهم دفعاً لإثبات تهمة على أنفسهم، يضع عليهم القرائن ويسبغ ملفاتهم بالقيود، يحرمهم من العمل والطبابة ويحرم أبناءهم من التعليم، يمنع عنهم الهوية، بطاقة صغيرة نأخذها نحن كتحصيل حاصل دون أن نستشعر فرق وجودها في جيوبنا ومدى تأثيرها على سريان حياتنا، هؤلاء الذين يذلون كلما أرادوا استخراج ورقة رسمية بوجوب توقيعهم على تعهد بصحة ما فيها قبل حتى أن يروا ورقتهم الرسمية، هؤلاء الذين يجبرون على شراء جوازات مزورة، وبتشجيع من الجهاز المركزي والأجهزة التي سبقته، ليستطيعوا تسيير أبسط أمور حياتهم، ليتحولوا الى جنسيات أخرى لا يعرفون شيئا عنها ولا يمكن لعاقل أن يقتنع لا من شكلهم ولا لونهم ولا لسانهم ولا دينهم ولا أي شيء آخر ظاهر عليهم بانتمائهم إليها، هؤلاء، أي مادة يشكلون للتنظيمات المتطرفة لتستغل ضياعهم وغياب هوياتهم وتحطم حيواتهم؟
الجريمة تبقى جريمة، لا مبرر لها، وسنبقى ننتظر القول الفصل للقضاء فيها، ولكن لابد من النظر في سياساتنا التي لربما تدفع بالجريمة وتؤسس لها، سياسات تخلق فراغات نفسية وهوياتية، سياسات تعتمد الضغط المهين وتدفع، بعلم أصحاب هذه السياسات ومباركتهم، الى التزوير في الهوية كحل مؤقت يعقد القضية ويخلق لها سراديب مظلمة عميقة. كل هؤلاء الشباب البدون، الذين كان يمكن لهم أن يكونوا مكسباً للدولة، أيدي عاملة، مصدرا اقتصاديا، سندا علميا، سد قصور وظيفي، كل هؤلاء تركوا للعنصريات والسياسات القاصرة والحلول المشوهة المتعسفة لكي تطوح بهم يميناً ويساراً، ليتحولوا من حل إلى مشكلة، ومن مكسب إلى عبء، ومن حالة مليئة بالخير إلى حالة فارغة ضياعاً، يعلم الله كيف وبأي شيء ستمتلئ. الحقيقة أن ما يثير الإعجاب هو أن المجتمع البدوني لا يزال محافظاً على ولائه وأخلاقياته، حيث إن أقصى ردود فعله هو حالات الانتحار المتتالية ومنذ زمن. ولكن هل سيبقى الأمن مستتباً والفراغ مفرغاً إلى الأبد؟