لا شك أن إيمانويل ماكرون ذكي، فقد فاز بكل الجوائز الأكاديمية اللماعة، ثم حقق تقدماً فائق السرعة في فضاء الخدمة المدنية الفرنسية، حتى إنه عمل لفترة مصرفياً في بنك ديفيد دي روتشيلد الاستثماري قبل أن يتبوأ منصب وزير الاقتصاد خلال عهد فرانسوا هولاند ليفوز بعد ذلك بالجائزة الأكثر لمعاناً على الإطلاق، رئاسة الجمهورية، في سن التاسعة والثلاثين والثلاثة أرباع.لكن كبرياءه، وعجرفته، وانفصاله شبه التام عن الفرنسيين في الشارع تكاد تضاهي ما اتصفت به ماري أنطوانيت، ففي باريس، كان كثيرون يرتدون سترات صفراء، ولكن هل ينتمون حقاً إلى حركة السترات الصفراء؟ كانت «أنتيفا»، التي أعادت تسمية نفسها في فرنسا «الكتلة السوداء»، حاضرة بالتأكيد، وقد ارتدى أفرادها السترات الجديدة اللامعة فوق أزياء قتال الشوارع السوداء الفاخرة، كذلك شارك المشتبه فيهم المعتادون من أحياء باريس الفقيرة، مع أنهم لم يتكبدوا عناء ارتداء السترات الصفراء، وخلال تحطيم واجهة أحد المتاجر قرب شارع الشانزليزيه، علت مراراً صيحات «الله أكبر». استغل هؤلاء المتظاهرين انتهازيون سياسيون ومجرمون، لكن ماكرون يقترف خطأ مميتاً إذا ظن أنه يستطيع تجاهل مخاوف جيراني، الذين كانوا يوزعون البسكويت على الدراجات النارية العابرة، علماً أن كثيرين من راكبيها علقوا سترة صفراء على لوحة القيادة الأمامية إعراباً عن تضامنهم.
لا شك أن محاولات التفاوض مع هذه الحركة الشبيهة «بميدوسا» لن تكون واضحة ومباشرة، فلا قائد لهذه الحركة، ومطالبها بسيطة وغير مكتملة. سارع سياسيو المعارضة إلى الوقوف إلى جانب حركة السترات الصفراء، فلم تتأخر مارين لوبان وجان لوك ميلانشون، زعيم حزب يساري يدعو نفسه «فرنسا الأبية»، في دعم هذه الحركة، حتى الرئيس السابق فرانسوا هولاند وقف في الخطوط الأمامية، معتقداً أن هذا قد يساعده في بلوغ حلمه الخاص بتحقيق عودة سياسية، لكن الشعب الفرنسي لم يسأم ماكرون وحده، بل سئموا السياسيين أجمعين.في المقابل، يزداد سلوك ماكرون غرابة، فقد غادر فرنسا مرة أخرى في نهاية الأسبوع هذه للمشاركة في قمة الدول العشرين حيث راح يعظ ترامب بشأن البيئة، وفي مؤتمره الصحافي الختامي، تحدث من دون توقف طوال ساعة تقريباً، غير أنه لم يشر إلى الأحداث في باريس إلا في الثواني الثلاثين الأخيرة، معتبراً إياها عملاً غير مقبول، لكنه لم يتفوه بما يلهم، أو يريح، أو يعكس تعاطفاً مع أمة حائرة، ثم رفض الإجابة عن أسئلة بشأن أعمال الشغب.لدى رجوعه إلى باريس، سارع بالعودة من المطار ليشارك في جلسة تصوير معدة مسبقاً شكر فيها رجال الشرطة والإطفاء الذين لم يبدوا، بعد 12 ساعة من العمل، مسرورين بلقائه، كذلك قام بجولة قصيرة وكان محاطاً بحراسه الشخصيين، وخلال هذه الجولة، علت في وجهه أصوات الاحتجاج، وختم نهاية الأسبوع بالتعهد بعدم التراجع عن الزيادات الضريبية المخطط لها على الوقود، علماً أن هذه المسألة هي ما أشعل موجة التظاهرات في المقام الأول. لذلك لا يسعنا إلا أن نقول إنه صب الزيت على النار.صحيح أن ماكرون فاز بالرئاسة، وإن في ظل ظروف مريبة، إلا أنه يعجز عن تمييز مختلف النوتات السياسية، فقد دفعه هوسه بالبيئة وبإبقاء حلفائه الخضر في الحكومة إلى إشعال نار هوجاء في فرنسا تهدد بالتهام برنامج الإصلاح الطموح برمته، مضعفةً إياه على المسرح العالمي، ويمكننا تشبيه ماكرون بنيرون في هذا المجال: راح يعزف على أوتار أهداف خفض إنتاج الكربون فيما كانت باريس تحترق.لن يتغير ماكرون ولا يمكنه ذلك، فهو لا يتمتع بذرة تواضع في شخصيته، صحيح أن هذا عاد بالفائدة على الجنرال ديغول، إلا أن ماكرون لا يستطيع النجاح بهذه الطريقة ولا يمكن لشخصية مماثلة أن تصمد في وجه هجمات مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحفل في فرنسا بكلمات السخرية والتنديد الموجهة إلى الرئيس.إذاً، بدل توحيد البلد وراء الإصلاح الضروري بالتأكيد لمؤسساته المتحجرة وقوانينه العمالية وسياساته الضريبية المعادية للتوظيف، وبدل إلهام البلد بمشروع كبير يهدف إلى تجديد الأمة، وحّد ماكرون البلد ضد نفسه، وهكذا انتقلت السلطة من الرئاسة إلى الشارع، فلقي البعض حتفهم وتعرضت أعداد كبيرة لإصابات، وهكذا بلغت فرنسا اليوم موضعاً خطيراً جداً.* جوناثان ميلر* «سبيكتايتور»
مقالات - اضافات
ماكرون وحّد فرنسا ضده
07-12-2018