ما من أحد يريد الحرب، ولكنها تندلع عندما تمارس دولتان عمليات استفزازية عند نقطة مواجهة وكل واحدة تتصرف في سياق ما تعتبره ضمن أسلوب يمكن السيطرة عليه مع قدر طفيف من خطر التصعيد، ولكن كل دولة مستعدة للقيام بالخطوة التالية إذا بدا التقهقر مكلفاً جداً، وهنا تبدأ سلسلة الأعمال وردود الفعل مع سوء الحسابات والتقدير الذي يفضي إلى حريق هائل لا تريده أي دولة أو تتوقعه.

Ad

طريق الحرب

وحادث العنف الذي وقع عند مضيق كيرتش ليس الطريقة التي يتصورها عدد كبير من الدول في الغرب طريقاً إلى الحرب في أوروبا، وذلك المسار يختلف عن قيام روسيا باقتطاع قسم من دول البلطيق، كما أن موسكو لا تعمل على تسخين الحرب في دونباس قبل شنها حرباً على كل شرق أوكرانيا أو الاستيلاء على جسر بري يربط بين دونباس وشبه جزيرة القرم، ولم تكن روسيا أيضاً الدولة التي استخدمت التدريبات العسكرية الخاطفة من أجل التمويه على هجوم استهدف دفاعات حلف شمال الأطلسي.

وبدلاً من ذلك فإن أزمة مضيق كيرتش تصور وسيلة عملية أكثر نحو مأساة، وقد اعتبر استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في سنة 2014 انتهاكاً خطيراً للقوانين الدولية، لكن قلة فقط اعتبرت ذلك العمل تمهيداً جديداً لحرب كما أن خضوع شبه جزيرة القرم لسيطرة روسيا في ظل التوتر في العلاقات بين أوكرانيا وروسيا يشكل إمكانية حدوث مأساة أمنية خطيرة.

وبالنسبة إلى أوكرانيا فإن مزاعم روسيا حول السيادة على شبه جزيرة القرم تأتي مع حق مؤكد للسيطرة على ممر الى أوكرانيا واستخدام بحر آزوف، ويشمل هذا هيمنة روسيا على ميناء ماريوبول الذي يتم عبره الصلب والحديد بنسبة 40 في المئة من صادرات أوكرانيا السنوية إضافة إلى جزء كبير من صادراتها من الحبوب، كما أنه يهدد حياة عشرة آلاف من الصيادين.

مسمار عجلة

ومن جهة أخرى تبدو روسيا، كما هي حال بكين في بحر الصين الجنوبي، مصممة على تحويل بحر آزوف إلى موقع استراتيجي داخلي ومضيق كيرتش– مع جسر بتكلفة تبلغ 7.5 مليارات دولار فوقه– وتحويله إلى مسمار عجلة في هذه الخطة.

وخلال معظم عام 2018 ازداد اندفاع الروس نحو تأكيد سيطرتهم على تدفق حركة التنقل عبر مضيق كيرتش كما ازداد تصميم الأوكرانيين على إثبات حقهم في الحصول على ممر آمن استناداً الى معاهدة سنة 2003 الروسية الأوكرانية حول استخدام بحر آزوف ومضيق كيرتش، وكان هذا زعم قائد البحرية الأوكرانية في الأسبوع الماضي عندما طلب من أن يتراجع، وجاء رد موسكو في إصرارها على أنه بموجب المادة 25 من معاهدة الأمم المتحدة حول قانون البحار فإن لروسيا الحق في تعليق مؤقت «للعبور البريء للسفن الأجنبية» إذا كان ذلك التعليق أساسياً من أجل حماية أمن روسيا.

ويجانب الزعمان الحقيقة، ومهما كان وضع معاهدة 2003 أو القوة الروسية التي أكدت السيادة على مضيق كيرتش– بموجب قانون البحار المشار اليه– فإن لأوكرانيا الحق في «عبور مؤقت» بما في ذلك السفن الحربية في حالات الحرب والسلم، كما أن إغلاق روسيا للمضيق على أسس أمنية بموجب المادة 25 من قانون البحار ثم استخدام القوة القاتلة حتى بعد توجيه طلقات تحذيرية ضمن منطوق المادة 30 من المعاهدة يبرز ضعف أهمية القانون الدولي إزاء خطر التحول الى وضعية خطيرة.

ويرجع ذلك إلى أن روسيا– سواء بدافع المخاوف الأمنية أو الطموح– لن تتوقف عن الضغط المتعلق ببحر آزوف ومضيق كيرتش، كما أن أوكرانيا لن تتوقف عن السعي الى منع ذلك، وإذا كان القيام بذلك يعني السيطرة على مزايا في أماكن أخرى– مثل التصعيد في المواجهة العسكرية في دونباس– فإن السرعة التي أعلنت أوكرانيا فيها الأحكام العرفية ووضع قواتها في حالة تأهب في الآونة الأخيرة يوحي بأكثر من مجرد تلميح لهذه الغاية، أو إذا كان التصعيد التالي حول السيطرة على المياه بين أوكرانيا وروسيا يحدث في وقت النزاع حول شرق أوكرانيا فإن شرارة المستوى الكبير ستكون فورية.

حظر اقتصادي

وبخلاف ذلك فإن طول التأجيل من ساعات الى أيام الذي تفرضه روسيا الآن على الملاحة الى الموانئ الأوكرانية في ماريوبول وبيرديناسك يشكل حظراً اقتصادياً، ولكن إذا أقدمت روسيا في لحظة التوتر العالي على قطع كل سبل الملاحة الى موانئ أوكرانيا في بحر آزوف، وهي خطوة ستنقل الحظر الى حصار، فإن ذلك سيعني عملاً حربياً.

وأياً كانت طبيعة أو مستوى ما سيتحول بشكل محتم الى مواجهة بين البلدين فإن توجه كل جانب نحو قراءة أي تصرف من الجانب الآخر على شكل تمهيد لتصعيد واسع يخلق ضغطاً لأحد الجانبين أو لكليهما للرد بأسلوب أوسع. ويضاف الى هذا الخليط من الردود التي تصدر عن الكونغرس الأميركي ووسائل الاعلام التي تدعو واشنطن الى تدعيم حضورها البحري في البحر الأسود، وزيادة إمداد أسلحتها الفتاكة الى أوكرانيا ستمهد السبيل الى تحويل الحرب بين روسيا وأوكرانيا الى حرب اقليمية أو عالمية.

ضعف التفكير

وفي الحد الأدنى، يتعين على هذه الأحداث أن تذكر كل شخص بأن الأسلوب الضعيف التفكير الذي يميز الآن كل اللاعبين في مأزق دونباس أمر لا يحتمل أو أنه يخلو من الخطر كما يظنون على ما يبدو، وبدلاً من ذلك يتعين على هذه التطورات أن تفتح عيون المعنيين على الأبعاد الاخرى التي تنطوي عليها المواجهة بين روسيا وأوكرانيا والتي هي أشد قتامة وإثارة للقلق، وعليهم تشجيع القادة ليس في موسكو وكييف فقط بل في واشنطن والعواصم الأوروبية أيضاً على فتح كتب التاريخ واستخلاص العبر.