خلال عهد جورج بوش الأب في البيت الأبيض، سقط جدار برلين وأُعيد توحيد ألمانيا سلمياً؛ وانهار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفياتي وانتهت الحرب الباردة؛ وطرد الجيش الأميركي مانويل نورييغا من بنما وحررت الكويت من صدام حسين، وهكذا أصبحت الولايات المتحدة الأميركية أهم قوة عالمية بعد أربعة عقود من المراوحة بين القوى العظمى.

كان هذا الوضع نتاج قوى تاريخية قديمة ولاعبين أساسيين، من أمثال رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف، لكنه لم يكن حتمياً بالضرورة، فيما كان العالم يتغير بشكل جذري، نجح جورج بوش الأب في توجيه مسار دولته استناداً إلى خبرته ومهارته... وحكمته أيضاً، مع أن هذه الصفة قد تثير سخرية الكثيرين! أصبحت الولايات المتحدة بعد عهده أقوى مما كانت عليه وضعف في المقابل خصومها أو تغيّر وضعهم. فاز الغرب بالحرب الباردة تحت إشراف جورج بوش الأب، وبالنسبة إلى معظم القادة السياسيين، كان هذا الانتصار يستحق تهنئة قوية للذات، لكن في أي مجالات اتّضحت أهمية حكمة الرئيس؟ أبدى بوش ردة فعل حذرة على كل تطور تاريخي وقد فهم أن المبالغة الأميركية في الاحتفال بالنصر قد توقف مسار التقدم. بعدما اتجه سكان برلين غرباً، رفض أن يحتفل ويستغل الفرصة، فقد حرص الرئيس على تلقي المكاسب الديمقراطية والجيوسياسية من دون إضعاف موقع غورباتشوف أو التحريض على ردة فعل عنيفة من المتشددين، كان هذا الهدوء في موقفه صادماً بالنسبة إلى بعض الأميركيين، ولم تتمكن وسائل الإعلام من فهم السبب الذي منع الرئيس من التعبير عن بهجته بسقوط الجدار، فقال لهم بوش: «أنا مبتهج فعلاً، لكني لستُ عاطفياً بطبيعتي».

Ad

قام بوش ومعظم المسؤولين الذين يحملون العقلية نفسها، من أمثال مستشار الأمن القومي برانت سكوكروفت ووزير الخارجية جيمس بايكر، باعتبار هذه المقاربة نتاج حسابات استراتيجية، لكن ربما كان تحفظ بوش مجرّد انعكاس لخلفيته الأرستقراطية المشتقة من «نيو إنغلاند» أو تطبيق دولي لهذه المقولة السياسية القديمة: حين يبدأ خصمك بتدمير نفسه، لا تقف في طريقه!

بغض النظر عن السبب، نجحت هذه المناورة بامتياز، فانتهت الحرب الباردة من دون إطلاق ولو رصاصة واحدة بين القوى العظمى، وقد خفّض الطرفان ترسانتهما النووية، وتخلّت موسكو عن إمبراطوريتها وإيديولوجيتها التأسيسية. ثم انتقل بوش من ترك الأحداث تتطور تلقائياً لمصلحته إلى رسم معالمها المستقبلية، فطرح رؤية عن أوروبا «الشاملة والحرّة»، كما أنه أقنع غورباتشوف بالانقلاب على حليفه العراقي بعد غزو الكويت وبتقبّل إعادة توحيد ألمانيا، ذلك البلد الذي غزا الاتحاد السوفياتي في أيام غورباتشوف.

لكن لم تكن حكمة بوش تقتصر على ذلك الهدوء الظاهري فحسب، فوراء خطابه المتّزن يكمن تفكير عميق وتخطيط مدروس وتنظيم دقيق وتصميم قوي، وغالباً ما كان يضع هذه المبادئ كلها في خدمة أهدافه الجريئة. لقد كان آخر رئيس يصل إلى منصبه بفضل خبرته في مجال السياسة الخارجية أو حتى السلطة التنفيذية، وقد اتضح ذلك جلياً. قد يبدو غريباً بعض الشيء أن تُعتبر سيرة بوش الذاتية في واشنطن ميزة في تلك الأيام بدل أن تكون تهمة، لقد كان طياراً في القوات البحرية، وعضواً في الكونغرس، وسفيراً في الأمم المتحدة، ومبعوثاً إلى الصين، ورئيس الحزب الجمهوري، ومدير «وكالة الاستخبارات المركزية»، ونائب الرئيس طوال ولايتَين قبل وصوله إلى المكتب البيضاوي. يمكن القول إذاً إن أي رئيس قبله أو بعده لم يكن مستعداً للتعامل مع الشؤون الخارجية بقدره.

تعامل بوش مع الملفات الخارجية بطريقة منهجية وقد عكست حرب الخليج حجم تصميمه وإصراره بأفضل طريقة. في نظام العالم الجديد الذي كان في بداياته حينها، لم يكن الاستحواذ على الأراضي بالقوة مسموحاً، بل كان لا بد من مقاومة الأعمال العدائية وعَكس مسارها، كان يجب أن تتولى الولايات المتحدة دوراً قيادياً في هذا المجال، لكن لم يكن سجل بوش الناجح خالياً من الشوائب، سواء في العراق أو في أماكن أخرى، فقد بقي صدام حسين في بغداد بعد انتهاء حرب الخليج، وهذا ما استلزم فرض مناطق حظر جوي إلى أجل غير مسمّى تحت إشراف الدوريات الأميركية وإجراء عمليات تفتيش لامتناهية بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل.

على صعيد آخر، حافظ الرئيس بكل براعة على علاقات بلده مع الصين بعد مذبحة «تيانانمن»، لكنه تعرّض للنقد كونه لم يستنكر انتهاكات بكين بدرجة كافية، كما أنه نقل مشاكل البلقان وتداعيات عملية الصومال الكارثية إلى بيل كلينتون، وكان الحذر الذي أفاده كثيراً بشكل عام السبب الذي جعله أحياناً يقاوم رياح التغيير، كما حصل حين عارض النزعة القومية في أوكرانيا قبل أن يشهد على استقلال ذلك البلد بعد مرور أشهر.

يتّسم الرؤساء الأميركيون عموماً بتفاؤل هوسي: يكفي أن نتذكر حملة ريغان بعنوان «الصباح في أميركا»، أو ثقة جورج بوش الابن بانتصار الديمقراطية في الخارج، أو قناعة أوباما بأن مسار التاريخ يميل دوماً نحو العدالة، وحتى دونالد ترامب يعبّر عن حماسته في بعض المناسبات، فقد قال في إحدى المرات: «الحروب التجارية مفيدة ويسهل الفوز بها»! لكن كان جورج بوش الأب مختلفاً بالكامل.

لم يكن بوش يسعى إلى تحسين العالم الذي يصقله، بل أراد أن يتكيف مع الوضع القائم وينشئ ظروفاً تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، ولم يشأ أن يأخذ مجازفات جيوسياسية بل أراد أن يفكّر بجميع عواقب التحرك والجمود، فبدا وكأنه أراد ألا يحكم الناس عليه بناءً على الانتصارات التي حققها فحسب (في بنما والعراق واتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) وألمانيا والحرب الباردة)، بل بناءً على المآسي التي تجنّبها أيضاً: الحروب التي لم تندلع، والفوضى التي لم تنتشر، والدماء والكنوز التي حفظها بدل أن يهدرها. كانت هذه الإنجازات محورية بالنسبة إلى رئيسٍ حكيم في سياسته الخارجية.

لن يكون الحذر على طريقة بوش مناسباً في جميع الحقبات، فقد كان ميل تشرشل إلى الجمع بين الإنذار والاندفاع يناسب زمنه، تماماً مثل إصرار وصبر فرانكلين روزفلت، ومبادرات ترومان المبتكرة، وصرامة ريغان، لكن في ظل التحولات الجذرية التي شهدها العالم ومع بلوغ المخاطر الجيوسياسية ذروتها، كانت الولايات المتحدة بحاجة ماسّة إلى حكمة جورج بوش الأب.

لا شك أن هذا البلد كان سيستفيد من تلك الحكمة اليوم، ففي معظم الأوقات، يبدو وكأن ترامب يكتب التغريدات أولاً ثم يخطط لاحقاً، أو أنه يطلق مبادرات جريئة من دون استعداد مسبق، أو يتصرف قبل التفكير بالعواقب المحتملة. ستستفيد الولايات المتحدة والعالم كله حتماً من رؤية الرئيس الحادي والأربعين وحذره وانضباطه، علماً أن هذه المزايا تبدو بعيدة كل البعد عن الرئيس الأميركي الخامس والأربعين.