دولة فاشلة بمعنى الكلمة!
كل الدول تتنفس الصعداء، وتركن إلى الهدوء والسكينة، وتهتم بشؤونها الداخلية، وتصلح أحوال الناس بعد حرب ضروس مرت عليها إلا العراق، فهو يخرج من حرب ليدخل في أخرى أشد ضراوة وقساوة، وكان وما زال على هذه العادة المدمرة متلذذا بإثارة الفتن والصراعات الدموية، وبغض النظر عن تاريخه الطويل الحافل بالحروب الداخلية والخارجية فإنه مازال يواصل نهجه المعهود. وبغض النظر عن حروب صدام الطويلة مع الشعب الكردي وحركته التحررية ولجوئه إلى أشرس وأخطر الوسائل لقمعه مثل القصف الكيماوي على مدينة "حلبجة" وقتل 182 ألف إنسان بريء في عمليات "الأنفال" السيئة الصيت في فبراير من عام 1988 متزامنا مع حربه الشاملة مع إيران، فإنه فاجأ العالم بغزوه للكويت وافتعاله أزمة عالمية في أغسطس من عام 1990 انتهت بطرده منها في مواجهة غير متكافئة مع أكثر من عشرين دولة. واستمرت حالة اللا حرب واللا سلم إلى عام 2003، وهو العام الذي غزت الولايات المتحدة فيه العراق وأبدلت نظامه العروبي بنظام شيعي طائفي لا يقل عنه اندفاعا لإشعال الحروب والصراعات، ولم يمض أكثر من سنتين أو ثلاث حتى تعرض البلد لحرب أهلية طائفية على أساس الهوية! ذهب ضحيتها مئات الآلاف، ومازال الشحن الطائفي يتصاعد ويتفاقم حتى ظهر تنظيم "داعش" الإرهابي بأبشع صوره في الموصل والمناطق السنية الأخرى.
ورد الجانب الشيعي المهيمن على السلطة بفتوى تقضي بتشكيل قوات الحشد الشعبي لمواجهة خطر هذا التنظيم الإرهابي، وانضمت إلى هذه القوات ميليشيات مسلحة شيعية كان لها الدور الأبرز في إثارة الحرب الأهلية وارتكاب جرائم كبرى بحق الإنسانية. وبإعلان النصر والانتهاء من "الدواعش" في الموصل برز إلى السطح صراع آخر وحرب محتملة جديدة قائمة على أساس عرقي طائفي بين هذه الميليشيات بالتعاون مع القوات العسكرية العراقية، وبين القوات الكردية "البيشمركة" في إقليم كردستان، وخصوصا بعد إعلان رئيس الإقليم "مسعود برزاني" إجراء الاستفتاء في 25 سبتمبر الماضي للانفصال عن العراق، بعد فشل المباحثات الطويلة بين الطرفين في الوصول إلى اتفاق مشترك لقضايا عالقة ومواد دستورية لم تنفذ مثل المادة 140 التي تعالج قضية المناطق الكردية التي استولت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة بالقوة من خلال عمليات التعريب والتهجير والتبعيث والمعروفة بالمناطق المتنازع عليها. وتتسارع عجلات الهدم والتدمير للبنية الأساسية للعراق كدولة واحدة موحدة، ولا أحد يستطيع إيقافها، تدهس كل من يقف في طريقها أو يحاول أن يحرف اتجاهها، فالأزمات تتفاقم والمشاكل تنهال على رؤوس العراقيين من كل الجهات، والبؤس والكآبة يخيمان على المجتمع كقطع الليل المظلم، ولا تلوح في الأفق أي بارقة أمل، فقد فشلت كل الحلول والمبادرات التي طرحت لوقف الانهيار السريع في بنية الدولة العراقية، من مبادرات البرزاني والطالباني إلى مبادرات النجيفي ومقتدى الصدر وعمار الحكيم، فضلاً عن عشرات المبادرات الأخرى التي فشلت لأن أصحابها كانوا جزءا من المشكلة القائمة وليسوا جزءا من الحل. لو يحدث في أي دولة من دول العالم نصف ما يحدث في العراق من فساد وأزمات و"بلاوي زرقة"، لاستقالت حكوماتها، و"تفركشت" مؤسساتها السياسية، و"جُرجرت" رؤوس كبيرة إلى السجون، ولكن في العراق الأمر مختلف تماما، الفساد أصبح سياسة تتبع، فالمفسد يكرم ويرحل إلى خارج البلاد محملا بالمال الحرام الذي سرقه، والقاتل يتولى الحكم ويقود جيشا حكوميا، والمتسكعون في شوارع الدول الغربية غدوا مسؤولين وسياسيين بارزين، وفي ظل هذه الأجواء القاتمة لن يرى العراق والعراقيون خيراً قط، ولن يروا حكومة تمثلهم حق تمثيل!* كاتب عراقي