أزمة ماكرون في فرنسا تهدد كل أوروبا
من أجل أوروبا كلها، يحتاج ماكرون إلى مساعدتنا لا تنديدنا وكراهيتنا، تبدو القوى المتطرفة عبر أوروبا منشغلة بالتعبير عن فرحها بمأزق السترات الصفراء الذي يواجهه ماكرون، ومن مؤيدي خروج بريطانيا المتشددين إلى رجل إيطاليا القوي اليميني المتطرف ماتيو سالفيني، هذا إن لم نذكر وسائل بوتين الدعائية، تبدو الفرحة جلية. تزدهر هذه القوى بفضل الانتفاضات والفوضى في الديمقراطيات الليبرالية، وقبل وقت ليس ببعيد، وضع ماكرون نفسه في موضع العدو اللدود لسالفيني ورئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان، قائدين تستهدف أبرز سياساتهما المهاجرين، والخصوم السياسيين، وحكم القانون. لكن ماكرون بات في موقع دفاعي ضعيف وأكثر انعزالاً من أي وقت مضى.لا شك أنه اقترف الأخطاء، ويحمل معظم المتظاهرين مظالم محقة، وإن عبروا عنها بطريقة فوضوية، ويعتبر المتظاهرون أنفسهم الشعب "غير المرئي" الذي تتعاطى معه النخب الباريسية بتعالٍ، لذلك قرروا أن يجعلوا أنفسهم مرئيين بوضوح من خلال ستراتهم اللماعة، ويؤيدهم الرأي العام. من أعضاء هذه الحركة الأكثر بلاغة إنغريد لوفافاسور، ممرضة شابة وأم من النورماندي تربي وحدها ولدين. تحدثت قبل أيام بطريقة مؤثرة على شاشة التلفزيون عن نضالها لتأمين قوت عائلتها وعن إحساسها العميق بالظلم. قالت بصوت رقيق: "يشتكي البعض من أننا نقفل الطرقات، لكنهم لا يشتكون عندما يعلقون في زحمة السير وهم متوجهون إلى منتجعات التزلج، أليس كذلك؟".فات الأوان على الأرجح على إعلان تعليق رفع الضرائب، فقد ازدادت مخاوف الفرنسيين ثلاثة أضعاف، فصاروا يخشون خسارتهم النفوذ والمكانة، يخشون تأثير العولمة الاقتصادي، ويخشون فقدان "هويتهم الوطنية"، كذلك يعاني البلد تصدعات محلية عميقة يعجز رئيس واحد بمفرده عن رأبها في غضون 18 شهراً.
تشعر كل المجموعات الاجتماعية أنها تقف في وجه بعضها: الشبان في وجه المسنين، العاطلون عن العمل في وجه الموظفين، سكان الريف في وجه سكان المدن، ومَن يفتقرون إلى المؤهلات في وجه المثقفين، لا شك أن انقسامات مماثلة تنتشر في دول كثيرة، ولكن في فرنسا، تتخذ بعداً وجودياً بسبب مُثل المساواة التي ترتبط تاريخياً بالجمهورية، لذلك يشعر فرنسيون كثر أن الواقع لا يعكس ما لهم الحق فيه. عندما ترشح ماكرون للرئاسة في عام 2017، تعهد بقيادة "ثورة" لمعالجة الحاجة الشاملة إلى تجديد محلي وإعادة إنعاش المكانة الفرنسية وخصوصاً على المسرح الأوروبي.لكن الرئيس يبدو اليوم مشلولاً في الداخل، وقد تُنعى قريباً خططه الأوروبية، وكما لم تستطع ميركل الضعيفة مساعدة ماكرون في إعادة إطلاق المشروع الأوروبي، كذلك سيقدم ماكرون اليوم ما يعزز مكانة المتطرفين والشعبويين في مختلف أنحاء القارة، فأمثال لوبان، وأوربان، وسالفيني ينتظرون الفرصة للانقضاض، وإذا لم نتوصل إلى حلول، ينشأ خطر أن تتحول الانتخابات الأوروبية إلى استفتاء ضد ماكرون. إذاً، فقَدَ الرئيس الفرنسي مكانته كبطل يدافع عن الليبراليين والوحدة الأوروبية، لكن اعتبار ذلك خبراً جيداً بالنسبة إلى أوروبا والديمقراطية عموماً خطر ومحير جداً، يبدو هذا أشبه بتمني تحطم القطار بغية استبدال بعض عرباته. الآلام الاجتماعية في فرنسا حقيقية ومن الضروري معالجتها، لكن القوى التي ستجني المكاسب من هذا التحطم الجماعي والعنف في الشارع هي تلك التي ستدفعنا إلى الهاوية، فيكفي أن نتوقف عند التهديدات بالقتل التي وُجّهت إلى أعضاء السترات الصفراء الذين أعربوا عن استعدادهم للتفاوض مع الحكومة.قبل بضع سنوات، مرت إيطاليا المتوترة والمنهكة بأيام اضطرابات وتظاهرات مماثلة استمدت منها حركة النجوم الخمس قوتها، فماذا حدث منذ ذلك الحين؟ سقطت إيطاليا هذه السنة في قبضة اليمين المتطرف، ولا شك أن مرحلة الاضطرابات الفرنسية الراهنة ستقود إلى سيناريو مشابه إذا لم يساعد الحكماء بطريقة ما ماكرون على إعادة بناء الحد الأدنى من الثقة، ومن المستحيل بناء مشروع ديمقراطي أوروبي أو عدالة اجتماعية من دون دولة فرنسية ديمقراطية أوروبية. إذاً، من الضروري إعادة ترميم وجه ماريان.*«ناتالي نوغايريد»