أخيراً، وبعد ثلاثة أسابيع خضعت الحكومة الفرنسية لمطالب حركة "السترات الصفراء" إثر أعمال العنف والنهب والتخريب وقطع الطرق والشغب والصدامات مع الشرطة، اجتاحت العاصمة الفرنسية ومناطق أخرى، أسفرت عن قتلى وجرحى واعتقال المئات، فأعلن رئيس الوزراء الفرنسي، تعليق الزيادة على أسعار الوقود ستة أشهر، كما أجّل فرض الزيادات على الغاز والكهرباء ثلاثة شهور، معلناً أنه لا ضرائب تستحق أن تعرض وحدة الأمة للخطر، ومعترفاً بأن الشعور العميق بالظلم، وعدم قدرة الفرد على العيش بكرامة من عمله، هو المحرك للغضب في الشارع، لكن هذه التنازلات التكتيكية لم ترضِ المحتجين، ولم تفلح في تهدئة الأوضاع، واضطرت الحكومة في النهاية للإعلان عن تخليها نهائياً عن زيادة الأسعار ومشروع الضرائب، وبذلك نجحت الحركة في تحقيق انتصار سياسي، عبر الاحتجاجات العنيفة، وهذا أغرى الحركة بمواصلة التصعيد لتحقيق بقية مطالبها، بخاصة بعد أن أعلنت قطاعات اجتماعية أخرى انضمامها للتظاهرات، فهل تتوسع الاحتجاجات لتطالب بحل البرلمان، واستقالة الحكومة والرئيس الفرنسي؟!ما دلالات ونتائج نجاح الحركة التي عاثت في عاصمة النور فساداً، وشوهت أيقونة فرنسا (قوس النصر)؟ وكيف أمكن لحركة بدأت سلمية وتحولت إلى العنف والتخريب، تحقيق مطالبها، في دولة ديمقراطية، وفي بلد، يعد أم الحريات وعاصمة التنوير والعقلانية؟!
1- أخطر النتائج، أن التظاهرات العنيفة حققت نتائج سريعة لم تحققها التظاهرات السلمية، ومعنى ذلك شرعنة العنف أسلوبا في حل الخلافات السياسية في دولة ديمقراطية، مما يغري الفئات الاجتماعية الأخرى باستنساخ الحركة لتحقيق مطالبها، وذلك يصيب الديمقراطية بتصدع. 2- يبدو أن المسبحة كرت، وشهية الاحتجاجات انفتحت، وهي آخذة في الاتساع: حركة طلاب الثانويات محتجة على إصلاح البكالوريا، وطلاب الجامعات محتجة على زيادة رسوم التسجيل، وسائقو الشاحنات يهددون بالإضراب، ومربو الأغنام يهددون بالتظاهر. 3- عدوى السترات الصفراء، جاوزت الحدود إلى بلجيكا وهولندا، وصولاً إلى العراق، فالأوضاع الاقتصادية المتردية، وسوء الأحوال الاجتماعية والفساد، أجواء مثالية لانتشار العدوى الباريسية. 4- تجد الحكومات الديمقراطية الغربية نفسها في مأزق كبير، في مواجهة التحديات: تحدي الأحزاب الشعبوية الرافضة للمهاجرين، والتي اكتسحت الساحة الأوروبية ووصلت البرلمانات والسلطة، واضطرت الحكومات والأحزاب التاريخية الغربية لتقديم تنازلات كبيرة في مجال القيم الليبرالية والتسامح وقبول الآخر، حتى تحتفظ بأصوات ناخبيها، وهي اليوم، في مأزق أكبر أمام حركة الاحتجاجات العنيفة، فلا تستطيع مصادرة حق التظاهرات، التزاماً بالمبدأ الديمقراطي، وفِي الوقت نفسه تقف عاجزة أمام استيعاب مطالب الشرائح الاجتماعية المتضررة والفئة الطلابية (أصحاب الدخل المحدود والعاطلين والمتقاعدين) بسبب الفجوة الاجتماعية التي تزداد اتساعاً بين الطبقة السياسية القائدة (الرئيس والحكومة والبرلمان) وهذه الشرائح التي ترى البرلمانات والأحزاب والنقابات غير معبرة عن مطالبها، فتضطر إلى التعبير عن نفسها بأسلوب الاحتجاجات التي تلازمها أعمال الفوضى وقطع الطرق، فإذا واجهت الحكومة عنفاً بعنف، اتهمت بإساءة استخدام القوة، وثارت المنظمات الحقوقية الدولية، وهذا هو المأزق الحقيقي للنظام الديمقراطي! 5- حركة السترات الصفراء ليست وليدة نقابات ولا أحزاب، لكن اليمين الشعبوي أكبر المستفيدين، بل هي أحد إفرازات الثورة الرقمية، ومع ذلك فهي بلا هيكلية أو قيادة، مما يصعب التفاوض معها، ولن تقتصر مطالبها على لقمة العيش بل تتجاوز إلى أهداف سياسية: كرفضها الاتحاد الأوروبي والمهاجرين. 6- هل يذهب ماكرون ضحية حماسته لتفعيل اتفاقية باريس للمناخ كون الحكومة زادت الضرائب على الوقود، حماية للبيئة فانطلقت شرارة الاحتجاجات؟ حينئذ يحق لترامب أن يتهكم على ماكرون: لقد كنت على حق!أخيراً... لطالما اتهمت الجماهير العربية بأنها تخريبية، لا تعرف التظاهرات السلمية كالشعوب الأوروبية التي تتظاهر سلمياً، وهذه أعطت الحكومات العربية، ذريعة حظر التظاهرات، بحجة الحفاظ على الأمن العام وأرواح وممتلكات الناس، ها هي التظاهرات الغربية تعيث فساداً، وتخريباً، بشكل أسوأ من التظاهرات العربية.ختاماً: الديمقراطيات الغربية تواجه اليوم تحديات كبيرة تتطلب تطوير آلياتها، لتصبح أقرب إلى نبض الشارع، وأكثر استيعاباً لمطالب وتطلعات الجيل الجديد من الشباب والفئات الاجتماعية المتضررة، ولتكون أكثر تحقيقاً للعدالة الاجتماعية، واحتواء لمشاعر الغضب ومرارات الظلم والتهميش. * كاتب قطري
مقالات
انتصار السترات الصفراء... تصدع الديمقراطية!
10-12-2018