بين أربعينيات القرن الماضي وعام 1975، عرفت المكتبة الوطنية في لبنان أوج ازدهارها، واحتضنت نحو 200 ألف كتاب أو مخطوطة، ومجموعة فريدة من الأرشيف (وثائق إداريّة وتاريخيّة خلّفها الأتراك عام 1918، ومستندات ودراسات عن بعثة هوفلان التي شكّلت أرشيف السنوات الأولى للانتداب). اعتُبرت المكتبة مرجعاً مهماً للجامعيّين والمدرّسين والمسؤولين الإداريّين وباتت تساعد المكتبات العاملة في لبنان، لا سيّما الجامعيّة منها، وخُصّصت فيها قاعة ضمّت أثمن التحف الفنيّة والمخطوطات القديمة من بينها شاهناما الفردوسي، فضلاً عن لوحات زيتيّة لأركان النهضة الأدبيّة منذ القرن السابع عشر لغاية القرن العشرين.
مع اندلاع الحرب تعرضت المكتبة الوطنيّة، التي كانت تقع وسط العاصمة، لأضرار جسيمة وفقدت 1200 مخطوطة نادرة. وفي عام 1979، أصدرت الحكومة مرسوماً قضى بتجميد نشاطات المكتبة الوطنيّة، وأوكلت مَهمّة حفظ المجموعة التاريخيّة: المخطوطات واللوحات الزيتيّة والأعداد الأولى للدوريّات اللبنانيّة من مجموعة دي طرّازي إلى مصرف لبنان ومن ثمّ إلى مؤسّسة المحفوظات الوطنيّة.عام 1983، نُقلت الكتب والدوريّات إلى مستودع في قصر الأونيسكو في بيروت بهدف الحفاظ عليها، إلّا أنّ أضرار الحرب لحقت بها، ما أثّر سلباً في ظروف تخزينها (رطوبة وحشرات).عام 1993، أنشئت وزارة الثقافة والتعليم العالي وأصبحت إدارة المكتبة الوطنيّة من صلب مهامّها، وفي عام 1994، بعد زيارة استطلاعيّة قامت بها بعثة خبراء من المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة، وضعت دراسة لواقع حال المجموعة وخطّة عمل أوليّة. عام 1999، قرر مجلس الوزراء تخصيص مبنى كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الواقع في منطقة الصنائع في بيروت ليكون المقر المستقبلي للمكتبة الوطنية التي كانت قائمة في حرم مرفأ بيروت. وفي العام 2006، قدم أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني هبة إلى الدولة اللبنانية لبناء المكتبة الوطنية المستقبلية، ووُضع حجر الأساس لمشروع النهوض بالمكتبة الوطنية في 10 مايو 2009، بحضور حرم أمير دولة قطر الشيخة موزة بن ناصر المسند.تتألف المكتبة من أربعة طوابق مقسمة على الشكل التالي: طابق لمخازن الكتب والصحف، وطابق إداري، وطابق خاص بالقراءة، وطابق أرضي مرتبط بطابق لركن السيارات. يصل عدد المخطوطات إلى 300 ألف مخطوطة تعود غالبيتها إلى القرن الحادي عشر وما فوق.
افتتاح المكتبة الوطنية
افتتح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المبنى الجديد للمكتبة الوطنية في احتفال بحضور رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، ووزير الثقافة الدكتور غطاس خوري، وسفير قطر في لبنان محمد حسن جابر الجابر، وشخصيات سياسية وثقافية وإعلامية...في المناسبة، اعتبرت المديرة التنفيذية للمكتبة الوطنية جلنار عطوي أن المكتبة الوطنية كمؤسسة عامة مستقلة أريد لها أن تكون حافظة للتراث الفكري الوطني ومركزاً ثقافياً في قلب العاصمة بيروت النابض بالحياة. بدوره تمنى رئيس مجلس الإدارة المدير العام للمكتبة الوطنية الدكتور حسان العكره، «أن تتمكن المكتبة الوطنية من أداء دورها النهضوي، مستخدمة الوسائل الحديثة في مجال تكنولوجيا المعلومات، والمواقع الإلكترونية وأساليب التواصل الرقمية، فتكون قيمة علمية وثقافية تضاف إلى القيم الانسانية التي رسخت بلادي على خارطة العالم».أما سفير قطر لدى لبنان محمد حسن جابر الجابر فأكد أن المساهمة القطرية في إعادة إحياء بيت ذاكرة التاريخ اللبناني الفكري والعلمي في هذا المشروع، هي انعكاس لتحقيق الذات القطرية على قاعدة الاستثمار في الإنسان لحفظ ثقافته وتاريخه. كذلك أشار وزير الثقافة د. غطاس خوري إلى أن «إعادة افتتاح المكتبة الوطنية في لبنان، عيد ثقافي لصرح يضم ثروة ليست كالثروات، فيه الكتاب، والدورية، والمخطوطة، واللوحة، فيه نتاج الفكر الإنساني بالآلاف، بعرض حديث ممكنن، في قاعات وصالات للمطالعة وللعروض الفنية واللقاءات الثقافية».صرح حضاري مشرق
في كلمته في المناسبة، أكد رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون أن من يراجع تاريخ هذه المكتبة وكيف بدأت، ثم كيف تابعت واستمرت لتصل الى ما وصلت إليه اليوم، يعرف معنى أن يؤمن الإنسان بحلم، ومعنى الإصرار والمثابرة لتحقيقه. أضاف: «في العام 1919، ولم تكن قد انقضت سنة بعد على انتهاء الحرب العالمية الأولى مع كل المآسي والآلام التي خلفتها في العالم ولبنان، كان هناك من لا تزال لديه أحلامه، ووعي لأهمية حفظ التراث وحفظ مؤرخات المرحلة؛ فبدأ فيليب دو طرازي، وهو المؤرخ والكاتب الذي يعرف جيداً قيمة الوثيقة والمخطوطة والمدونة، رحلة الألف ميل، مباشراً تجميع الكتب والمحفوظات والأرشيف في منزله أولا، ساعياً دوماً إلى الحصول على المزيد وأيضاً على التمويل، وبدأت المكتبة تكبر وتتوسع؛ تعاقب على إدارتها كثير من الشخصيات، ترك كل منهم بصمته في هيكلتها، وبذل جهوداً في الحفاظ عليها وتحسينها».تابع: «عاصرت كل المشاكل والأحداث والاضطرابات في لبنان، تأثرت بها وخسرت بعضاً من نفائسها، ولكنها تخطت ذلك كله، وها هي اليوم مفخرة للبنان وللثقافة وللتاريخ».ختم كلمته بتوجيه كلمة شكر «إلى أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وإلى الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وإلى الحكومة القطرية التي مولت إعادة تأهيل مكتبتنا الوطنية، لتتزين بأحسن حلة، صرحاً حضارياً يتجلى من خلاله وجه لبنان المشرق».