منح فرصة ثانية لبريطانيا
إن حنين أشخاص مثل جونسون، أو ريس موغ إلى أسلوب حكم أكثر سلطة ألحق ضررا كبيرا بالبلد الذي يدعون أنهم يكنون له الحب، وهذا هو السبب الرئيس الذي ينبغي من أجله منح فرصة أخرى للشعب حتى يصوت لما من شأنه أن يمنع حدوثه.
في مايو 1950، عندما بدأت الدول الأوروبية تستعيد قواها بعد الدمار الذي حل بها بسبب الحرب، أعلن رجل الدولة الفرنسي، روبير شومان، برنامجه الذي كان يهدف من خلاله إلى خلق الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، ومن خلال تكتيل هذه المواد الأساسية في الحرب تحت سيطرة أوروبية مشتركة، لم يعد ممكنا التفكير في حرب بين فرنسا وألمانيا. لقد كان الألمان مسرورين، وكانت ستنضم دول البِنِلوكس وإيطاليا إلى المشروع أيضا، وكانت هذه أول خطوة نحو تأسيس الاتحاد الأوروبي، وبُعيد إعلان شومان، وُجِّهت إلى بريطانيا دعوة الانضمام إلى المفاوضات.وَرَدَّ البريطانيون بفزع وازدراء، ظنا منهم أن فرنسا كانت تخطط لإغراء أشخاص واقعيين للدخول في مشروع أجنبي مثالي، ولم يكن حزب العمال، الذي كان في السلطة آنذاك، ليتخيل تقاسم السيادة على الصناعات الحيوية للمملكة المتحدة، وفشل المحافظون في إدراك كيف يمكن لقوة عالمية أن تكون جزءا من ناد ضيق كهذا، وكان من الجيد أن تجتمع سويا الدول التي كان لها مستعمرات، لكن بريطانيا ستواصل قيادة الأمواج، إلى جانب أشخاص آخرين ناطقين باللغة الإنكليزية في دول الكومنويلث، وفي الولايات المتحدة الأميركية.ومن السهل، بعد إدراك متأخر، السخرية من بريطانيا على خلفية تضييعها فرصة الانضمام إلى القارب الأوروبي بغطرسة لم تُظهر أي شعور بالقلق، لكن يمكن على الأقل تفهم قرارها، ففي النهاية وقفت بريطانيا الفخورة بديمقراطيتها لوحدها ضد ألمانيا في عهد هتلر، وساعدت على تحرير الدول الأوروبية التي استسلمت للنازية، ولا يمكن لأحد لومهم على إحساسهم بشيء من التفوق.
ورغم ذلك، ما يشعرنا بالإحباط، بشأن كارثة البريكسيت التي تخلق فوضى في سياسات بريطانيا، هو أن الحجج الأساسية ضد "أوروبا" لم تتغير منذ 1950، ويعتبر الإيديولوجي، جيريمي كوربين، المنتمي إلى حزب العمال، الاتحاد الأوروبي خطة رأسمالية تهدف إلى تلويث صفاء أفكارهم الاشتراكية، ومن بين أشكال القومية أيضا، والتي تعتبر إنكليزية أكثر من كونها بريطانية، هو التعلق العاطفي بـ"علاقة خاصة" مع الولايات المتحدة الأميركية.والمؤسف للبريطانيين هو أن العالم تغير كثيرا منذ 1950، فالإمبراطورية البريطانية لم يعد لها وجود، وأصبحت الكومنويلث أثرا وجدانيا قديما، وقد تكون للولايات المتحدة الأميركية مكانة خاصة لدى إنكلترا، لكن هذه الأخيرة تحتل مكانة أقل شأنا لدى الأميركيين. لكن شيئا آخر، ربما أكثر أهمية، تغير أيضا، فعندما رفضت الحكومة البريطانية فرصة المساعدة في تشكيل مستقبل أوروبا في عام 1950، انتقد بعض المحافظين حزب العمال لأنه كان متسرعا شيئا ما، وكونه ينتمي إلى التيار المعارض، اضطر حزب التوريز لقول هذا، لكنهم لم يقولوا ذلك عن اقتناع، لأن موقف الحكومة، كما ذكرت جريدة نيو يورك تايمز آنذاك، "يعكس شعورا بريطانيا كبيرا اتجاه أوروبا، بغض النظر عن سياسات الأحزاب".وأصبحت بريطانيا- إن لم نقل كل جزء من إنكلترا- تبدو أوروبية أكثر من قبل، ففي عام 1950 كانت لندن مدينة بريطانية بشكل كامل، وكان "الغرباء" فيها أقليات مختلفة، وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين، أصبحت العاصمة غير الرسمية لأوروبا، كما أن أكثر من ثلاثة ملايين لندني ولدوا خارج لندن، ويشتغل مئات الآلاف من الأوروبيين في القطاع البنكي، والقانون، والموضة، والطعام، والفنون وغيرها من الصناعات، وتعيش في لندن ساكنة فرنسية نسبتها أكبر من تلك التي تعيش في المدن الفرنسية.وليس من الغريب إذا، أن يصوت أغلب اللندنيين على البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهذا ما فعله أغلب الشباب في بريطانيا ممن صوتوا في الاستفتاء، فهم لا يعترفون ببريطانيا 1950. إذا، فمن تكون نسبة 51% التي صوتت على الانسحاب من الاتحاد البريطاني؟ ولماذا؟ إن حماية الاشتراكية لها جاذبية محدودة، شأنها في ذلك شأن مُثل السيادة القومية، وتصورات بريطانيا للعمل وحدها كقوة عالمية، ويبدو أن الخوف من الهجرة هو السبب الرئيس وراء تصويت الأشخاص على الانسحاب، وفي بعض الحالات، يرجع هذا إلى قلق حقيقي يكمن، مثلا، في كون مهنيي البناء القادمين من أوروبا الشرقية، يجعلون الحصول على أجور لائقة مقابل العمل نفسه أمرا صعبا، ولكن في غالب الأحيان، يقطن الأشخاص الأكثر تخوفا من "اكتساح" الأجانب لهم في مناطق تعيش بها نسبة تكاد تكون بالمنعدمة من المهاجرين. وفي الوقت نفسه معظم المواطنين البريطانيين لا يُقَدَّرون أنهم يتلقون الرعاية والمعالجة في المستشفيات من طرف المهاجرين، ويحصلون على الخدمات في الأسواق الممتازة من طرف المهاجرين، ويتلقون مساعدات في البنوك والمكاتب البريدية ومراكز الخدمات الاجتماعية والمطارات والنقل العام من طرف المهاجرين أيضا، وبدون المهاجرين، سينهار الاقتصاد البريطاني.ويشعل بعض مؤيدي البريكسيت فتيلة الخوف من الهجرة بوقاحة أكثر من غيرهم، وأشهر الصور التي استعملت في حملة البريكسيت، كان إعلانا يظهر مجموعة من الرجال الشباب، بملامح تبدو شرق أوسطية بشكل غير واضح، وتحمل عبارة "علينا التحرر من الاتحاد الأوروبي واسترجاع السيطرة"، وفي الحقيقة لم يكن الشباب في الإعلان قرب الحدود البريطانية، بل التقطت الصورة في كرواتيا.ويتحدث مؤيدو البريكسيت الأكثر احتراما عن السيادة أكثر من تحدثهم عن الهجرة، وقد يكون قلقهم بشأن فقدان السيطرة حقيقيا، كما أن شخصيات مثل بوريس جونسون، بادعاءاته التي تنتمي إلى عهد تشرتشل، أو جاكوب ريز موغ، الذي يشبه شخصية ثانوية في رواية بيلهام غرينفيل وود هاوس، لا تتناسب مع الزمن الحاضر، ولو عاشوا في زمن الماضي، لتمكنوا من حكم إمبراطورية. أما الآن، فهم ليسوا إلا مجرد سياسيين في دولة تحتل رتبة متوسطة.يمثل البريكسيت بالنسبة إلى أشخاص مثل جونسون، أو ريس موغ انتزاعا متعجرفا للسلطة، باسم الشعب، الذي من المفترض أن ينتفض ضد النخبة التي يشكل هؤلاء السياسيون أنفسهم عناصر بارزين فيها، كما أن حنينهم إلى أسلوب حكم أكثر سلطة ألحق ضررا كبيرا بالبلد الذي يدعون أنهم يكنون له الحب، وهذا هو السبب الرئيس الذي، في وقت تبدو فيه الكارثة الممكنة للبريكسيت واضحة، ينبغي من أجله منح فرصة أخرى للشعب حتى يصوت لما من شأنه أن يمنع حدوثه. * إيان بوروما* مؤلف كتاب أصدره مؤخرا بعنوان "رومانسية طوكيو: مذكرات".«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»
مؤيدو البريكسيت الأكثر احتراماً يتحدثون عن السيادة أكثر من تحدثهم عن الهجرة
المؤسف للبريطانيين هو أن العالم تغير كثيراً منذ 1950 فالإمبراطورية البريطانية لم يعد لها وجود
المؤسف للبريطانيين هو أن العالم تغير كثيراً منذ 1950 فالإمبراطورية البريطانية لم يعد لها وجود