التلوث ومدن التاريخ العريقة
![خولة مطر](https://www.aljarida.com/uploads/authors/982_1671286347.jpg)
يتسلل برد ديسمبر إلى ما تحت المعطف السميك ويتجمد الوجه إلا أن كل ذلك لا يمكن أن يثني أحداً عن المشي والتجوال بين كثير من الأنوار القادمة احتفالاً بالأعياد القادمة في مدينة الأناقة والحياة والجمال والحب. تصدمك في تجوالك تلك المحلات الخارقة للحدود، تلك الحاملة لكثير من التلوث، خصوصاً عندما تتربع بين المقاهي التاريخية الشهيرة حيث كان يحتسي الكتاب والفلاسفة والمثقفون قهوتهم نهاراً ونبيذهم في المساءات الناعمة... تخرج عليك تلك المحلات للوجبات السريعة لتشوه ذاك المشهد التاريخي.عند دار الأوبرا العريقة أو على حافتها تتسلق يافطة لمطعم للوجبات السريعة كما هو في الكثير منها حديثة التكوين... تتذكر عندما انتفض أهالي روما الحديثة على افتتاح ذاك المطعم نفسه عند النافورة العريقة وأرسلوا العرائض واعترضوا إلا أنه لا أحد يدرك من هم المستعمرون الجدد وقوتهم على كسر الحدود بل اختراقها على عكس البشر الذين يقفون عند كل حاجز يفصل بين بلد وآخر يستجدون التأشيرة أو الدخول أو ربما الالتحاق بعائلتهم وأحبتهم... يقف هؤلاء الفقراء الباحثون عن الأمل في بلد باعة وعود به في علب الكوكاكولا أو قهوة الستاربكس! ما أفضع هذا التلوث وكيف يستطيع العالم أن يخلص نفسه أو ربما أطفاله وشبابه وشاباته منه.. أجيال لم تعرف سوى مزيد من هذه الأنواع من الملوثات التي لا تبدأ بمطاعم الوجبات السريعة ولا تنتهي عند التشبه بملابس أو أنماط حياة أو أخلاق لا تمت إلى حضارة وثقافة شعوب شديدة الحضارة وعريقة التاريخ... حتى أطفال الطبقات الوسطى أو الفقيرة تحولت تطلعاتهم إلى وجبة هنا وملابس هناك وعربة فاخرة أو كثيراً من الكماليات الأخرى عند استلامهم لأول راتب... التلوث هو أن تنتقل العدوى من دول إلى أخرى، ومن شرائح مجتمعية إلى أخرى أيضاً.. التلوث أن يصبح ابن الفلاح في تلك القرية المتواضعة الذي يأكل من أرضه يتطلع إلى شريحة من الهمبرغر لا يعرف ما هي المواد التي عُجِنت بها أو حتى إلى وجبات أخرى مليئة بالملونات والمواد المصنعة!تتصارع الأسئلة وبرد الليل يشتد، وأنوار ذاك المطعم العريق تناديك لتجد كبار السن فقط بينما يتجه الشباب وأبناء المهاجرين من الدول النامية جرياً سريعاً نحو وجباتهم السريعة والالتحاق بثقافة ما هي إلا كثير من الوهم والتسطيح.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية