دفاتر فارهو
في كثير من الأحيان يعمل الروائي بصمت، دون أن يتدخل كاتب زميل له بتفاصيل عمله. ذلك بسبب غياب ما يسمى بالمحرر الأدبي، الذي يتدخل في التفاصيل الدقيقة للعمل، يشطب ويلغي صفحات وفقرات، ويطلب إعادة فقرات وصفحات بديلة، والكاتب يقبل هذا التدخل لإيمانه بدور المحرر الأدبي. ما يحدث لبعضنا أحيانا، ولا أعرف إذا كان كل كتابنا العرب يفعلون الشيء ذاته، أن ندفع بالعمل لزميل نثق به لمراجعة العمل تدقيقا ومتابعة لأي هفوة أو خلل في تسلسل الأحداث. ما فعلته الزميلة ليلى عبدالله هو جرأة نادرة أن تعترف بعرض عملها على مجموعة من الأصدقاء، كنت أنا أحدهم، للاطلاع على عملها الروائي "دفاتر فارهو"، والصادر مؤخرا عن دار المتوسط - إيطاليا، للتدخل في تفاصيل العمل. في لقاء مع الكاتبة ذكرت أنها أفادت كثيرا من آراء الزملاء، وأعادت تشكيل العمل بناء على تلك التوصيات التي تلقتها. تلك كانت الجرأة الأولى أما الجرأة الأهم فهي في العمل نفسه الذي كشف عن جانب مجهول للكثير من الناس."دفاتر فارهو" هي الرواية الأولى للكاتبة ليلى عبدالله، وليست عملها الأول، وهو ما يجعلها تمتلك ناصية الفعل الأدبي ومعرفة دهاليز العمل الأدبي ومساراته الشيقة قبل إنتاجه وخلال سير عملية الكتابة الإبداعية. يتضح من خبرة الكاتبة في هذا الفعل أنها أجادت على المستويين السردي والتقني، محافظة على خط درامي يبدو صعبا وسط هذه الأصوات المتعددة التي تناوبت على تفاصيل الأحداث الروائية. كان عملا صعبا أن تقدم مجموعة من الشخصيات بلغات مختلفة وبيئات متباينة لتشكل منهم محيطا روائيا متماسكا. معتمدة على تحول السرد الذي ينتقل بين الشخصيات عبر تباين الخطوط الكتابية في جسد النص للانتقال من حالة إلى أخرى، والانتقال من معاناة شخصية إلى مثيلتها.
الأكثر أهمية في هذه الرواية هو الفكرة التي تم بناء العمل عليها. هي فكرة يبدو أنها ستسيطر لفترة طويلة على الرواية في الخليج، دون استثناء بلد بعينه، وقد يبدو للآخر مفاجأة ولولا الرواية لم يتم الكشف عن تفاصيلها. سوف أزعم أن الحالة بدأت في الكويت وفي الروايات التي تناولنا فيها سيرة المهمشين، الوافدين والبدون تحديدا، الذين وجدوا أنفسهم بين نار البقاء وجحيم الهجرة، الذين أسقط حقهم بأوراق تثبت أنهم هم. وهي الحالة ذاتها التي تناولتها الكاتبة ليلى عبدالله في تفاصيل هؤلاء المهاجرين الذين ألقت بهم الحياة إلى أوطان جديدة لم يحصلوا منها إلا على الاضطهاد والمعاملة القاسية بعيدا عن حقهم في المواطنة.كان عليهم أن يتأقلموا مع البلد الجديد تحت شروطه وبناء على ما يقبلهم فيه، عليهم أن يبحثوا عن أسماء جديدة لهوياتهم الجديدة وإخفاء ديانتهم في صدورهم والتظاهر بدين المجتمع. الشخصيات الرئيسة الثلاث هي ضحية مجتمعات هجرتهم ومجتمعات رفضتهم. بعضهم من البدون الذين تم منحهم أوراق بلاد لا يعرفونها ولا ينتمون إليها ووجدوا أنفسهم في صراع بقاء لن ينتهي.لقد عوّلنا على جنس الرواية لقدرتها على الدخول في تفاصيل سوسيولوجية وسياسية مسكوت عنها، وتتوارى تحت ظلال المدن والمدنية، وكنا على حق. الرواية لها السلطة التي فشل الإعلام والتاريخ في الإمساك بها. كل ما نحتاج إليه هو روائي جريء في طرحه كما فعلت ليلى عبدالله. وربما ستخرج رواية أخرى في مكان قريب، لكننا لا نعرف عنه الكثير.