انمساخ أوروبا الوسطى
في رواية فرانز كافكا القصيرة "المسخ"، يستفيق بطلها جريجور سامسا، ذات صباح، "بعد أحلام مزعجة"، ليجد أنه "تحول في سريره إلى حشرة عملاقة"... وغني عن البيان أن أسرة سامسا أصيبت بالصدمة والذهول، ولم يكن لديها أدنى فكرة عن التصرف الواجب حيال المخلوق القبيح، الذي أصبح عليه سامسا.يعرف الأوروبيون هذا الشعور، ففي عام 2018، اضطروا إلى الإقرار بأن المجر وبولندا تغيرتا من نموذج واعد للديمقراطية الليبرالية، إلى نظام حكم أغلبية غير ليبرالي يغلب عليه الفكر التآمري، والآن يتعين على بقية الأوروبيين أن يقرروا ماذا يتعين عليهم أن يفعلوا حيال المخلوقات غير المألوفة التي تقيم في منزلهم.ولكن أولاً: يستحق الأمر أن نتأمل في أسباب حدوث هذه التحولات غير الليبرالية، فلماذا أقدم الناس، الذين ما زالوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أوروبيون تماماً، على تأييد ثورة ضد الاتحاد الأوروبي، في حين اعتنقوا كراهية الأجانب ومعاداة المهاجرين؟ ولماذا فشل الليبراليون في مختلف أنحاء أوروبا في الاستجابة في الوقت المناسب؟
يرجع جزء من المشكلة إلى أن النخب الليبرالية أصبحت راضية عن الذات ومفرطة الثقة في قوة مؤسسات الاتحاد الأوروبي وقدرتها على احتواء الشعبويين المدَّعين، لكن المشكلة الأكبر هي أن هذه النخب فشلت في إدراك حقيقة مفادها أن جاذبية الشعبوية سيكولوجية أكثر من كونها أيديولوجية.لكي نفهم تحول أوروبا الوسطى إلى مسخ، يتعين علينا أن نضع في الاعتبار أن الحتمية السياسية في المنطقة على مدار ثلاثة عقود من الزمن تقريباً كانت "تقليد الغرب!". وقد حملت هذه العملية أسماء مختلفة؛ من فرض الديمقراطية، والتحرير، والتقارب، والتكامل، وفرض الطابع الأوروبي، لكنها كانت في الأساس محاولة بذلها الإصلاحيون في حقبة ما بعد الشيوعية لاستيراد مؤسسات الليبرالية الديمقراطية، وتبني الأطر السياسية والاقتصادية الغربية، واعتناق القيم الغربية علانية. وفي الممارسة العملية، كان هذا يعني أن دول ما بعد الشيوعية أرغمت على تبني 20 ألف قانون وتنظيم جديد، ولم يخضع أي منها للمناقشة في البرلمان، لتلبية متطلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.في هذه الحالة، تبين أن تبني نموذج أجنبي للاقتصاد السياسي لا يخلو من آثار سلبية غير متوقعة، على الصعيدين الأخلاقي والنفسي. وبالنسبة للمقلد، أصبحت الحياة خاضعة لهيمنة مشاعر عدم الكفاية، والنقص، والتبعية، وفقدان الهوية. والواقع أن إنشاء نسخة يمكن التعويل عليها من النموذج المثالي يستلزم توجيه انتقادات لا نهاية لها -إن لم تكن ازدراء- لهوية المرء، وعندما تخضع دولة بأسرها للتخلي عن الذات على هذا النحو، فسوف يتملكها حتماً شعور منهك ومستوطن بالتعرض بشكل ثابت لأحكام غريبة. ففي نهاية المطاف، يُعَد تحقيق المثل الأعلى أمراً مستحيلاً بحكم التعريف.ليس من المستغرب إذن أن تتسبب تسوية ما بعد عام 1989 في خلق شعور مقيت بالاستياء. واليوم، أصبح هذا الاستياء الوطني القوة الدافعة وراء الموجة المعادية للمهاجرين التي تجتاح أوروبا الوسطى والشرقية. وفي قلب الثورة الشعبوية المضادة، نجد الرفض الجذري لحتمية محاكاة الغرب الديمقراطي الليبرالي.يتمثل عامل آخر مساهم في الهجرة الجماعية من دول أوروبا الوسطى، بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إذ يساعد تفريغ السكان في تفسير الأسباب التي دفعت الدول التي استفادت كثيراً من التغيرات السياسية والاقتصادية في العقدين الماضيين إلى الشعور -رغم ذلك- بالخسارة، بل وحتى الصدمة والجرح. في الفترة بين عامي 1989 و2017، على سبيل المثال، نزفت لاتفيا وليتوانيا وبلغاريا 27%، و23%، و21% من سكانها على التوالي. على نحو مماثل، رحل نحو 3.4 ملايين روماني -أعمار الأغلبية العظمى منهم أقل من 40 عاما- عن بلادهم منذ عام 2007. وفي مختلف أنحاء المنطقة، عملت تركيبة من الشيخوخة السكانية، وانخفاض معدلات المواليد، والهجرة الجماعية، على إثارة حالة من الرعب الديموغرافي، والتي جاء التعبير عنها على نحو لا يخلو من المفارقة في هيئة خوف من اللاجئين من إفريقيا والشرق الأوسط (الذين نادرا ما تنتهي بهم الحال إلى أوروبا الوسطى). دأب بعض الأوروبيين الغربيين على الشكوى من حرية تنقل الأشخاص داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن الآن صارت هذه شكوى كثيرين في أوروبا الوسطى أيضاً، وإن كان ذلك للسبب العكسي. ولنتأمل هنا مثال الطبيب البلغاري، الذي يترك بلده بحثاً عن فرص مهنية أفضل في الجزء الغربي من القارة. الواقع أنه بهذا لا يحرم بلده مواهبه ومهاراته، فحسب، بل إنه يسلبها أيضاً استثمارها الذي وفرت له من خلاله التعليم، وغير ذلك من أشكال رأس المال الاجتماعي، ولن تعوض التحويلات المالية التي يرسلها الطبيب إلى والديه المسنين هذه الخسارة.يعيدنا هذا إلى البعد النفسي لتحول أوروبا الوسطى إلى مسخ، إذا كنت تعيش في بلد حيث لا تطيق الأغلبية من الشباب انتظار فرصة الرحيل، فسوف تشعر كأنك خاسر، بصرف النظر عن مستوى أدائك. والواقع أن هذا الشعور الذي لا يمكن تجنبه بالخسارة والدونية يفسر لماذا أصبحت بولندا أفضل ممثل للشعبوية الجديدة، ويبدو أن حقيقة أن نفس البلد سجل أيضا أدنى مستويات من التفاوت بين الناس، ومستويات معيشة مرتفعة، وأسرع معدلات النمو في أوروبا في الفترة بين 2007 و2017، لا تمثل إلا أهمية قليلة.بوصفهم الداعين الرئيسيين إلى حتمية التقليد، يُنظَر إلى الليبراليين في مرحلة ما بعد الشيوعية على أنهم الممثلون السياسيون لأولئك الذين تركوا بلدانهم، ولم يفكروا في العودة قط. من ناحية أخرى، انزلق النظام الغربي الذي كان مفترضاً أن يخدم كنموذج لأوروبا الوسطى، إلى أزمة من نوع خاص.لا عجب إذن أن يرفض أولئك، الذين تُرِكوا خلف الركب في مجتمعات أوروبا الوسطى، التقليد، وأن يطلقوا أجراس الإنذار بشأن نقص السكان، بل وحتى "الاختفاء العِرقي". وكما لاحظ الروائي ميلان كونديرا فإن "الأمة الصغيرة هي أمة قد يكون وجودها مهدداً في أي لحظة، والأمة الصغيرة قد تختفي، وهي تدرك ذلك". وقد عاين أهل أوروبا الوسطى بالفعل ذلك العالَم حيث اختفت ثقافاتهم، ومع فورة التغير التكنولوجي والتهديد المتمثل في إزاحة الوظائف، أصبحوا ينظرون إلى التنوع العِرقي والثقافي باعتباره تهديداً وجودياً.ومع ذلك، ففي حين فَقَدَ أهل أوروبا الوسطى شهيتهم للتقليد، فهم يدركون أيضاً أن تفكك الاتحاد الأوروبي سيكون بمثابة مأساة ملحمية لبلدانهم، والواقع أن الانقسام المتزايد العمق بين الشرق والغرب لن يعكس اتجاه التراجع السكاني، لكنه قد يهدد الآفاق الاقتصادية لأوروبا الوسطى. ونتيجة لهذا، تجد المنطقة ذاتها وقد تمزقت بين العزوف عن لعب دور المدّعي، والخوف من أن يعجل تحولها الشعبوي بانهيار الاتحاد الأوروبي. وفي كل الأحوال، تحولت "أحلام أوروبا الوسطى المزعجة" إلى حقيقة دائمة.* رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية في صوفيا، ورئيس كرسي هنري كيسنجر للفترة 2018-2019 في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بمركز جون دبليو كلوج التابع لمكتبة الكونغرس. وهو شريك ستيفن هولمز في كتاب يصدر قريباً بعنوان "الضياء الذي انطفأ: كيف فاز الغرب بالحرب الباردة وخسر السلام" (بنجوين، 2019)."إيفان كراستيف*