من الواضح أن شركات التكنولوجيا الرائدة العملاقة، مثل «أبل» و«أمازون» و«غوغل»، عازمة على تعطيل قسم كبير من الوضع الصناعي والاجتماعي الراهن في العالَم، والآن حققت هذه الشركات -كما أظن- نجاحاً تجاوز أكثر أحلامها جموحاً، بل ربما تجاوز ما كان يتمناه بعض مؤسسيها، إذا وضعنا في الاعتبار التأثيرات المهلكة التي خلفتها وسائط التواصل الاجتماعي على الانتخابات الديمقراطية.

ونظراً إلى حجم ونطاق التأثير الذي تخلفه هذه الشركات على مجتمعاتنا، فليس من المستغرب أن تبث الأمل أو الخوف في الوعي العام، لكن الأمر الوحيد الواضح هو أن مجموعة صغيرة من شركات التكنولوجيا تحرس الآن البوابة إلى الاقتصاد الحديث.

Ad

وفضلاً عن ذلك، فالحقيقة التي لا تقبل الجدال هي أن أسواق تكنولوجيا المعلومات، اليوم، أصبحت شديدة التركز، ففي أغلب الأحوال، تهيمن شركة واحدة على أي سوق بعينه، وهو أمر طبيعي، لأن المستخدمين ميالون إلى الاندفاع إلى منصة واحدة، اعتماداً على نوع الخدمة، ولكن يظل هناك من الأسباب المشروعة ما يدعو إلى القلق والانزعاج حول ما إذا كانت المنافسة تعمل على الوجه اللائق.

عيوب الشبكة

هناك سببان وراء تركز الأسواق الرقمية إلى هذا الحد، أولهما الطبيعة العَرَضية الخارجية للشبكة، إذ يجب أن نكون متصلين بنفس الشبكة التي يتصل بها الشخص الذي نريد التفاعل معه، وهذا هو نموذج أعمال «فيسبوك»، ولا أحد يشك في نجاحه، على الأقل عندما يتعلق الأمر بمصالح الشركة، وإذا كان أصدقاؤنا على «فيسبوك»، فلابد أن نكون هناك أيضاً، حتى وإن كنا نفضل حقاً شبكة اجتماعية أخرى.

عندما اختُرِع الهاتف، انتهت المنافسة بين الشبكات «غير المترابطة»، في كل دولة لديها شبكة هاتف، إلى الاحتكار. ومرة أخرى، لم يكن هذا غير طبيعي، إذ كان المستخدمون راغبين في امتلاك القدرة على التواصل فيما بينهم بسهولة، وعلى هذا فقد تجمعوا بطبيعة الحال على منصة واحدة، وعندما أعيد تفعيل المنافسة في صناعة الهاتف في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، كان من الضروري أن تكون الشبكات مترابطة، حتى يتسنى للمستخدم على إحدى الشبكات الوصول إليها جميعاً. وفي غياب التنظيم، ما كان مشغلو الخدمة آنذاك ليمنحوا مثل هذه القدرة إلى الوافدين الجدد الأصغر حجماً، ورغم أن رعاية عِدة شبكات اجتماعية (عن طريق الربط المتعدد) أرخص وأسهل من رعاية شركات هاتف متعددة، فإن التنسيق يظل واجباً.

قد تكون عوامل الشبكة الخارجية مباشرة، كما هي الحال مع «فيسبوك»، أو غير مباشرة، كما هي الحال مع المنصات التي من أجلها خُلِقَت تطبيقات أو ألعاب عديدة، وكلما زاد عدد المستخدمين على المنصة، ازداد عدد التطبيقات، والعكس صحيح. وفي حالات أخرى، ربما يحدد حجم المستخدمين جودة الخدمة، من خلال السماح باستقاء توقعات أفضل من مصادر جماهيرية حاشدة. هذه هي الطريقة التي يعمل بها محرك البحث «غوغل» وتطبيق الملاحة Waze. ورغم أن محركات البحث المنافسة من الممكن أن تتطابق مع نتائج «غوغل» في طلبات البحث الأكثر شيوعاً، فإنها لا تملك القدرة على الوصول إلى القدر الكافي من البيانات للقيام بهذا مع طلبات البحث الأقل اعتياداً. علاوة على ذلك، تتطلب الخدمات الجديدة عادة توفر البيانات، التي يقدمها مستخدمو الخدمات القائمة.

وبالتالي، يستفيد المستخدمون على المنصات الرقمية المهيمنة من وجود مستخدمين آخرين على نفس المنصة، حتى لو لم يكن هناك أي تفاعل مباشر بينهم، ويصدق نفس الأمر على سكان المدن، فبرغم أنهم جميعاً غرباء عن بعضهم، فإن وجود سكان آخرين في المدينة يعني عدداً أكبر من فرص العمل والمزيد من سهولة التنقل بين الوظائف، فضلاً عن المزيد من الحانات، ودور السينما، وغير ذلك من وسائل الترفيه، مقارنة بالمواقع الأقل اكتظاظاً بالسكان.

مشكلة الحجم

السبب الثاني وراء ارتفاع مستوى تركز الأسواق الرقمية هو أن الشركات المهيمنة تستفيد من اقتصاديات الحجم الكبير، وتتطلب بعض الخدمات استثمارات تكنولوجية ضخمة، وإذا كانت الخدمة محرك بحث، فإن تصميمها سيكلف نفس القدر تقريباً بصرف النظر عن أنها تجذب طلبات بحث أقل من ألفين أو أكثر من تريليونين سنوياً، والعنصر الذي لن يظل ثابتاً هو قيمة بيانات المستخدم التي تولدها الخدمة، فبوسع محرك البحث الذي يتلقى تريليونين من الطلبات أن يتقاضى من المعلنين مبالغ أكبر كثيراً، وأن يتوسع بسرعة أكبر.

ومن ثَمّ، يكاد الاقتصاد الرقمي يخلق «احتكارات طبيعية» حتماً، بفِعل تأثير الشبكات واقتصاديات الحجم الكبير، فالاقتصاد على شبكة الإنترنت يتبع منطق «الفائز يستأثر بكل شيء»، وإن كان الفائزون يختلفون عبر القطاعات والزمن.

كان سوق تصفح الإنترنت خاضعاً لهيمنة «نِتسكيب» و«نافيغاتور» في بداية الأمر، ثم «مايكروسوفت إنترنت إكسبلورر»، والآن «غوغل كروم».

لا يخلو الأمر من استثناءات بطبيعة الحال، فلم تلعب اقتصاديات الحجم الكبير وعوامل الشبكة الخارجية دوراً أساسياً في سوق الموسيقى والأفلام الرقمية، إذ يوجد عدد من المنصات، بما في ذلك «أمازون برايم»، و«أبل آي تونز»، و«ديزر»، و«سبوتيفاي»، و«باندورا»، و«نِتفلكس»، لكن هذه الخدمات تختلف حسب درجة تفاعلها مع المستخدم.

تكييف سياسة المنافسة

يتعين على صناع السياسات والقائمين على الهيئات التنظيمية في مختلف أنحاء العالَم أن يواجهوا حقيقة مفادها أن المنطق وراء مقاييس المنافسة التقليدية لم يعد صالحاً، فمن الشائع الآن أن تحدد منصات مثل «غوغل» أو «فيسبوك» أسعاراً منخفضة جداً -أو تقدم الخدمة مجاناً- على جانب واحد من السوق، في حين تقدم أسعاراً مرتفعة جداً على الجانب الآخر. ويخلق هذا الشكوك بطبيعة الحال بين السلطات التي تحكم المنافسة.

في الأسواق التقليدية ربما يُنظَر إلى مثل هذه الممارسات باعتبارها شكلاً من أشكال الافتراس في السوق، والمقصود منها إضعاف أو قتل المنافسين الأصغر حجماً. على نفس المنوال، قد يعني السعر المرتفع جداً على الجانب الآخر من السوق أن قوى احتكارية بدأت تفرض نفسها.

ومع ذلك، تمارس حتى الشركات الرقمية الصغيرة والبادئة الآن، هذا النوع من التسعير غير المتماثل: ولنتأمل على سبيل المثال الصحف المجانية عبر الإنترنت، التي تمول بالكامل بالإعلانات.

تنتشر الأسواق ذات الوجهين في الاقتصاد الرقمي، والواقع أن الهيئة التنظيمية التي لا تعبر بالقدر الكافي عن نموذج الأعمال غير المعتاد هذا ربما تعلن بشكل خاطئ أن تسعيراً منخفضاً يندرج تحت فئة التسعير الجشع، أو تعتبر أن تسعيراً مرتفعاً مفرط، برغم أنه حتى أصغر المنصات التي تدخل السوق كانت أيضاً تتبنى هذه الهياكل السعرية، ويتعين على الهيئات التنظيمية إذن أن تمتنع عن تطبيق المبادئ التقليدية، التي تحكم سياسة المنافسة بطريقة آلية، وعندما يتعلق الأمر بالمنصات المتعددة الأوجه، لا تنطبق هذه المبادئ ببساطة في كثير من الحالات.

وتستلزم المبادئ التوجيهية الجديدة التي ترمي إلى تكييف سياسة المنافسة مع الأسواق ذات الوجهين النظر إلى جانبي السوق معاً، لا تحليل كل منهما على حِدة، كما تفعل سلطات المنافسة أحياناً حتى الآن، وسوف يتطلب هذا الرعاية، فضلاً عن الاستعانة بنهج تحليلي جديد، لكن هذا أفضل من إساءة تطبيق المبادئ التقليدية أو التعامل مع هذه القطاعات على أنها مناطق محظورة قانوناً على سلطات المنافسة.

إعادة النظر في الضوابط

على نطاق أوسع، هناك أربع مناطق واضحة للتنظيم في الاقتصاد الرقمي: المنافسة، وقانون العمل، والخصوصية، والضرائب.

عندما تحتل شركة واحدة مركزاً مهيمناً، ينشأ خطر حقيقي في أن يتبع ذلك ارتفاع الأسعار والافتقار إلى الابتكار والإبداع، ومن الأهمية بمكان السماح لأي مشروع جديد أكثر كفاءة، أو أكثر إبداعاً من احتكار راسخ، بالدخول إلى السوق؛ أو بالمصطلح الاقتصادي، يجب أن يكون السوق محل التساؤل «تنافسياً»، فإذا استحالت المنافسة القوية بين الشركات عند نقطة بعينها في الزمن، تعيّن علينا على الأقل أن نسمح بالمنافسة الديناميكية، حيث يحل محل الشركة المهيمنة سابقاً شركة بادئة تطبق تكنولوجيات أو استراتيجيات تجارية متفوقة.

يبدأ الوافدون الجدد على أسواق الإنترنت بمنتجات متخصصة غالباً؛ وإذا أثبتت شركاتهم نجاحها، فإنها تتوسع لتقديم مجموعةٍ أعرض كثيراً من المنتجات والخدمات، فقد بدأت شركة غوغل بمحرك البحث فقط، قبل أن تصبح الشركة التي نعرفها اليوم؛ كما بدأت شركة أمازون ببيع الكتب.

الأمر المهم إذن هو ما إذا كان الوافدون الجدد قادرين على الوصول إلى السوق في المقام الأول، فإذا كان أحد الوافدين الجدد يبيع منتجاً أصلياً وحيداً أفضل من ذلك الذي يعرضه مشارك راسخ في السوق، فربما يرغب المشارك الراسخ في منعه من اكتساب موطئ قدم جزئي في السوق، ولن يفعل المشارك الراسخ ذلك لتحسين أرباحه في الأمد القريب، بل لمنع الوافد الجديد من المنافسة، في وقت لاحق، في مناطق يحتل المشارك الراسخ فيها مركزاً احتكارياً، أو لمنع الوافد الجديد من التحالف مع منافسي الشركة المهيمنة.

لهذا السبب، تُعَد «المبيعات المتعادلة» ممارسة ضارة بالمنافسة، فمن خلال مطالبة المشترين لأحد منتجاتها بشراء مجموعة أخرى من منتجاتها أيضاً، ربما يصبح بوسع الشركة الاحتكارية حرمان الوافدين الجدد، عبر مجموعة من المناطق، من الوصول إلى السوق، ولكن من المستحيل، رغم ذلك، صياغة سياسة واحدة تناسب الجميع في التصدي لهذه المشكلة. وسوف تتوقف ضرورة لجوء سلطات المنافسة إلى منع شركة مهيمنة من استخدام مبيعات التعادل، أو أي مناورة مماثلة (تخفيضات الولاء على سبيل المثال)، على دافعها ومبررها المنطقي.

في نهاية المطاف، تتلخص الطريقة الوحيدة الصالحة لضمان المنافسة الإنتاجية، في القطاع الرقمي، في تناول هذه التساؤلات، على أساس كل حالة على حِدة. يتعين على الهيئات التنظيمية أن تنشر تحليلات صارمة، ويتعين عليها أن تفعل ذلك برشاقة لمواكبة وتيرة التغيير.

ملاحقة استحواذ السيطرة

ما يزيد من تعقيد صورة المنافسة: ذلك الحافز الطبيعي الذي يدفع الداخلين الجدد إلى السوق إلى بيع أنفسهم لشركة مهيمنة، وهو حافز قوي إلى الحد الذي ربما يجعل الدافع الأكبر لدى الداخلين الجدد هو الرغبة في انتزاع الريع من الشركات المهيمنة، لا الرغبة في تقديم خدمة جديدة أو متفوقة للمستهلك.

لكن الحديث عن منع مثل هذا السلوك أسهل من القيام بذلك حقاً، والواقع أن قانون مكافحة الاحتكار، وخاصة في الولايات المتحدة، يلزم السلطات بتقديم الدليل على أن الاندماج من شأنه أن يضعف المنافسة ويضر المستهلكين، وهو أمر مفهوم، لكن مثل هذا المعيار يجعل من المستحيل إبطال عمليات الاستحواذ العديدة التي حدثت قبل نشوء أي منافسة حقيقية، مثل استحواذ «فيسبوك» على منصات مثل «واتساب» و«إنستغرام». وعلى هذا، فإن فاعلية قانون مكافحة الاحتكار تعتمد في نهاية المطاف على كفاءة وحيادية سلطات المنافسة.

مكافحة الاحتكار تبعاً للغرض

في ظل العولمة والتكنولوجيات السريعة التغير، أصبحت الأدوات التنظيمية التقليدية أقل فعالية، الأمر الذي يجعل سياسة المنافسة متأخرة. ويتطلب كسرُ الاحتكارات أو تنظيم المرافق العامة تحديدَ عنق زجاجة تنافسي مستقر، أو مرفق أساسي (نظير الحلقة المحلية في مجال الاتصالات، أو القضبان والمحطات في السكك الحديدية، أو شبكات النقل في مجال الكهرباء). ويتطلب التنظيم المحاسبة التفصيلية، في عالَم لا تخضع فيه الشركات العالمية لأي جهة تنظيمية فوق وطنية، كما يتطلب تتبع الشركات عبر دورة حياتها لقياس ربحية رأس المال، وهي مهمة مستحيلة.

يتعين علينا أن نضع سياسات أكثر مرونة، مثل رسائل استعراض الأعمال (إعطاء قدر محدود من اليقين القانوني للشركات، لممارسة خاضعة لشروط تحددها السلطات)، أو صناديق الرمل التنظيمية التجريبية، حيث يمكن اختبار نماذج الأعمال الجديدة في بيئة «آمنة»، ويجب أن يكون القائمون على التنظيم وخبراء الاقتصاد متواضعين؛ فهم سوف يتعلمون عن طريق العمل، ولا ينبغي لسياساتهم أن تكون متحجّرة.

إيجاد التوازن بين العمل واقتصاد العمل المؤقت

أما عن قانون العمل، فمن الواضح أن النهج الحالي غير مناسب للعصر الرقمي، فقد وُضِعَت أغلب قوانين العمل في العالم المتقدم قبل عقود من الزمن، وكانت تضع عمال المصانع في الاعتبار، وعلى هذا فإنها لا تهتم بالقدر الكافي بعقود العمل المحددة المدة، وتهتم بقدر أقل بالعاملين عن بُعد، أو المتعاقدين المستقلين، أو العاملين لحسابهم الخاص، أو الطلاب والمتقاعدين الذين يعملون بدوام جزئي مثل سائقي «أوبر».

نحن في احتياج إلى الانتقال من ثقافة تركز على مراقبة حضور العمال، إلى ثقافة تركز على نتائج العاملين، وهذه هي الحال بالفعل بالنسبة للعديد من الموظفين بأجر، ولاسيما المهنيين الذين أصبح وجودهم المادي في محل العمل من الاعتبارات الثانوية، والذين يصعب مراقبة جهدهم على أية حال.

عندما يواجه المشرعون اتجاهات سوق العمل الحالية، فإنهم يحاولون غالباً مواءمة أشكال التوظيف الجديدة داخل الهياكل القائمة، فهل يُعَد السائق في شركة أوبر «موظفاً» أو لا؟ يقول بعض الناس إنه كذلك، لأن السائق ليس حراً في التفاوض على الأسعار، وهو خاضع للعديد من متطلبات التدريب والمواصفات الخاصة بالسيارة، بما في ذلك النظافة، وربما الأمر الأكثر أهمية هو أن شركة أوبر تحتفظ بالحق في إنهاء عمل السائقين الذين يحصلون على تقييمات ضعيفة.

ويزعم آخرون أن سائق «أوبر» ليس موظفاً، فهو في نهاية المطاف يتمتع بالحرية فيما يتصل بتحديد متى وأين يعمل ومقدار عمله، ويستمد بعض العمال كل دخلهم من نشاطهم في «أوبر»، وربما يعمل آخرون لمصلحة منصات أخرى مماثلة، أو ربما يستمدون الدخل من العمل بدوام جزئي في مطعم أيضاً. ومثلهم كمثل العاملين بعقود مستقلة، فإنهم يتحملون المخاطر الاقتصادية التي تواجههم.

فضلاً عن ذلك، تنطبق قيود أخرى مختلفة أيضاً على العديد من العاملين لحسابهم الخاص، الذين تظل حريتهم في الاختيار مقيدة بالحاجة إلى حماية سمعة جماعية، مثل سمعة المهنة أو العلامة التجارية. في العديد من الدول، لا يُعَد الأطباء المستقلون موظفين، غير أنهم لا يمكنهم رغم ذلك أن يحددوا أسعاراً خاصة بهم، كما يتعين عليهم أن يتبعوا قواعد محددة، وإلا فإنهم يجازفون بخسارة تصاريحهم، وحتى صانع النبيذ المستقل لابد أن يحترم قواعد التصديق الإقليمية.

من المؤسف أنه في حين يُعَد وضع سائقي «أوبر»، وغيرهم من العاملين في مثل هذه المنصات، قابلاً للنقاش، فإن المناقشة لا تنتهي إلى أي نتيجة معقولة. فأي تصنيف قد نستقر عليه سيكون اعتباطياً، ومن المؤكد أن تفسيره سيأتي إيجابياً أو سلبياً، اعتماداً على التحيزات الشخصية أو الميل الأيديولوجي نحو أشكال جديدة من العمل.

وعلى أية حال، يغيب عن هذه المناقشة تحديد السبب الذي يجعلنا نصنف العمل، في المقام الأول، ضمان رفاهية العاملين.

بالنظر إلى المستقبل، لابد أن تكون الأولوية ضمان الحياد التنافسي، فلا ينبغي أن تميل الكفة لمصلحة العمل بأجر، أو العمل لحساب الذات، ويجب على الدولة أن تعمل على تعزيز الرعاية الصحية وحقوق الضمان الاجتماعي للعاملين بعقود مؤقتة، مثل سائقي «أوبر»، على سبيل المثال. وفي الوقت نفسه، ينبغي لها أن تتجنب السياسات التي من شأنها أن تجعل المنصات الرقمية غير قابلة للبقاء، حتى وإن كانت غير مألوفة ومعطلة للنظم القائمة.

إنقاذ الخصوصية

نحن في احتياج أيضاً إلى تحقيق التقدم، عندما يتعلق الأمر بمنع الشركات والحكومات من التطفل على حياة المستهلكين الخاصة، فمن المعلوم إلى حد كبير، وإن لم يكن على نطاق عالمي، أن هذه الكيانات تجمع كميات ضخمة من المعلومات عن المستهلكين. ومع ذلك، فحتى لو كنا مدركين لهذه الحقيقة، فإننا نفشل عادة في إدراك الحجم الحقيقي لهذه العمليات أو العواقب المترتبة عليها.

فمن ناحية، نجد أن قدرتنا على السيطرة على ما تجمعه الشركات والحكومات أقل كثيراً مما نتصور. على سبيل المثال، تكتسب شركة ما وتخزن معلومات عنا ثم تتقاسمها مع آخرين (عن طريق رسائل البريد الإلكتروني، أو الصور، أو شبكات التواصل الاجتماعي)، دون أن نستخدم منصاتها أو حتى الإنترنت على الإطلاق، ولا تستثمر المنصات في التأمين بالقدر الكافي، لأنها تستوعب العواقب المترتبة على أي خرق لأرباحها، ولكن ليس بشكل كامل لمصلحة عملائها.

ينبغي لنا أن نشعر بالقلق، لأننا لم نعد نتمتع بحق النسيان، وهو مبدأ أساسي في العديد من الأنظمة القانونية، كما ينبغي لنا أن نشعر بالقلق إزاء الانهيار المحتمل، الذي يهدد تضامن الرعاية الصحية، والكشف عن معلومات قد تكون حساسة عنا (الدين، والسياسة، والتوجهات الجنسية) في مجالات خلافية، وينبغي لنا أن نشعر بالقلق بشأن الرقابة التي تتجاوز كل الحدود من جانب الدولة.

ولا يمثل قانون حماية البيانات العامة في الاتحاد الأوروبي سوى خطوة صغيرة نحو حمايتنا من مثل هذه التهديدات، ومن الأهمية بمكان أن تتضمن الخطوات التالية إنشاء مجموعة من السياسات الموحدة التي يفهمها الجميع (حيث يتوافق تنظيم الدولة مع «الأبوية التحررية»).

الإبقاء على الأنوار مضاءة

أخيراً، ولأن الإنترنت لا تعرف حدوداً (وهو أمر جيد في عمومه)، فسوف تحتاج الدول بشكل متزايد إلى التعاون بشأن الضرائب، لمنع المنافسة الضريبية، واستخلاص بعض الإيرادات من قطاع ضخم من الاقتصاد ببساطة، وفي الاتجاه نحو تحقيق هذه الغاية، يقدم اتفاق 2015 في الاتحاد الأوروبي لإنهاء المنافسة الضريبية على المشتريات عبر الإنترنت نموذجاً واعداً.

على وجه التحديد، تفوض سياسة الاتحاد الأوروبي إلى الدولة المشترية تطبيق ضريبة القيمة المضافة على أي عملية شراء على الإنترنت، في حين كان النظام السابق يفرض الضريبة على المورِّد، وكانت النتيجة أن الشركات أصبح لديها حافز أقل لنقل مقراتها إلى الدول، حيث معدلات الضريبة على القيمة المضافة منخفضة، أو تبحث عن المستهلكين في الدول، حيث معدلات الضريبة على القيمة المضافة مرتفعة.

أثبت النظام الجديد أنه استجابة تنظيمية مرضية لنماذج الأعمال مثل «أمازون»، التي تُحَصِّل من المستهلك الفرد، لكنه لا يحل مشكلة المنصات مثل «غوغل»، التي لا تبيع فنياً أي شيء للمستهلكين البريطانيين أو الدنماركيين أو الفرنسيين أو الألمان الأفراد، بل تحصل من المعلنين، وتناقش الهيئات التنظيمية في الاقتصادات المتقدمة هذه المشكلة، لأن القاعدة الضريبية في حالة «غوغل» أقل وضوحاً إلى حد بعيد، منها في حالة مبيعات الكتب أو الموسيقى.

في الختام، يمثل التحول الرقمي فرصة رائعة لمجتمعاتنا؛ لكنه يقدم أيضاً مخاطر جديدة، في حين يتسبب في تضخيم مخاطر أخرى، ولتحقيق اقتصاد يخدم المصلحة العامة في هذا العالَم الجديد، يتعين علينا أن نتصدى لمجموعة واسعة من التحديات؛ من الثقة العامة والتضامن الاجتماعي، إلى ملكية البيانات والتأثيرات المترتبة على الانتشار التكنولوجي، وسوف يتوقف النجاح، بشكل خاص، على ما إذا كنا قادرين على تطوير أساليب جديدة قابلة للتطبيق، في التعامل مع قضايا مكافحة الاحتكار، وقانون العمل، والخصوصية، والضرائب.

* جان تيرول

* حائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2014، ورئيس كلية تولوز للاقتصاد ومعهد الدراسات المتقدمة في تولوز، وأحدث مؤلفاته «الاقتصاد من أجل الصالح العام».

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»