ونحن نقترب من استقبال عام جديد، لم يكن توجه الاتحاد الأوروبي إلى المستقبل أكثر أهمية من حاله الآن، سواء بالنسبة لأوروبا أو بقية العالم، ففي هذه الأوقات المتزايدة الاضطراب، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يقدم الاستقرار والأمل اللذين أصبح العالم في مسيس الحاجة إليهما.

لعقود من الزمن، كانت أوروبا أفضل ممثل للتكامل والتعاون في عالَم ممزق، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت القارة دليلاً حياً على نجاح التعددية، إذ أفسح ماضي أوروبا المختل المضطرب المجال لسلام دام سبعين عاماً، واتحاد يضم 500 مليون مواطن يعيشون في حرية وازدهار. وبكل المقاييس، تُعَد أوروبا الآن المكان الأكثر تسامحاً وحريةً ومساواةً، والذي يمكن أن يعيش فيه إنسان من أي جهة بالعالم.

Ad

لكن الاتحاد الأوروبي ليس فرضية مسلّماً بها، والسلام ليس حالة حتمية، والحرب ليست حالة مستبعدة.

وافَق عام 2018 الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، والتي لا ينبغي لنا أن ننسى الدروس المستفادة منها أبداً، إذ تَصَوَّر الأوروبيون في عام 1913 أن نشوب الحرب أمر مستحيل، وأنهم مترابطون إلى الحد الذي يمنعهم من التحول بعضهم ضد بعض، فنحن الأوروبيون نرعى تقليداً عريقاً يتمثل في تجاهل نُـذُر الشر والخراب، رغم ما يترتب على ذلك من مخاطر.

على هذه الخلفية التاريخية، لابد أن تكون عودة شكل بالغ الخطورة من أشكال النزعة القومية إلى الظهور اليوم سبباً لدق نواقيس الخطر في مختلف أنحاء قارتنا، وأظن أننا مدينون لأجيال الماضي والحاضر والمستقبل، بمكافحة القومية الجامحة بكل ما أوتينا من قوة.

وهذا يعني ترتيب البيت من الداخل، لاسيما على الجبهة الاقتصادية، من خلال تعزيز الاستثمار بالاستعانة بأشكال جديدة من الشراكات بين القطاعين العام والخاص. علاوة على ذلك، لكي يتسنى لنا الحد من المخاطر في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، يتعين علينا أن نعكف على إصلاح قطاعنا المصرفي، وهذا يعني دعم منطقة اليورو القوية المستقرة، وتعميق الاتحاد الاقتصادي والنقدي، كما يعني عدم انتظار اندلاع الأزمة القادمة، بل العمل بشكل استباقي على جعل الاتحاد الأوروبي أكثر اتحاداً وديمقراطية من أي وقت مضى.

فضلاً عن ذلك، لابد أن نكافح النزعة القومية في أوطاننا، من خلال التحكم في مصائرنا بأنفسنا. ومع ذلك، لا تستطيع أوروبا في عالَم خاضع للعولمة أن تؤمن مصالحها وقيمها بمفردها، فمن الهجرة والأمن إلى التكنولوجيات الجديدة والضغوط الإيكولوجية، تتضاعف التحديات الجماعية التي نواجهها، بمرور كل يوم، ومع ازدياد الانقسامات داخل المجتمعات وبين الدول عمقاً، تتعاظم حتمية العمل المشترك.

من خلال التعاون مع الأصدقاء من مختلف أنحاء العالم، يصبح بوسع دول أوروبا أن تكتسب المزيد من القدرة على الصمود، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. والآن، حان الوقت لتقديم زعامة عالمية مسؤولة، ولتجديد وإعادة تعريف الروابط التي تضمن تماسك العلاقات بين الدول في مختلف أنحاء العالم، مثلما نفعل داخل الاتحاد، فليس الهدف من زعامتنا وضع «أوروبا أولاً»، بل الهدف الأساسي هو أن نكون أول من يلبي نداء الزعامة عندما تكون واجبة.

الواقع أن أوروبا لا تزال تضرب مثالاً عالمياً كمنطقة تدعم قيم التضامن العالمي، ففي عام 2016، قدمت أوروبا حق اللجوء لثلاثة أضعاف اللاجئين الذين استقبلتهم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، مجتمعةً. ولسنوات، ظلت أوروبا تقدم أكثر من نصف المساعدات الإنمائية والإنسانية العالمية.

من منظور أوروبا، تعني القيادة العالمية المسؤولة وضع معايير عادلة، ولن يتسنى لنا ضمان استفادة شعوبنا، وكوكب الأرض، من التقدم التكنولوجي، إلا من خلال وضع الناس وحقوقهم في قلب العالم الرقمي الشجاع الجديد، والواقع أن الاتحاد الأوروبي يقود الجهود الرامية إلى معالجة مشاكل العالم الأكثر إلحاحاً، سواء كان ذلك بالتوسط في اتفاق باريس للمناخ، أو التفاوض على اتفاق مع إيران لتعليق برنامجها النووي، أو تخليص محيطاتنا من البلاستيك الضار، أو وضع معايير لحماية البيانات.

والتعاون متأصل في حمضنا النووي، فالدول الأوروبية ببساطة لا تملك، بشكل فردي، القدر الكافي من النفوذ لتشكيل الشؤون العالمية بمفردها، ولن يتغير هذا الواقع، وبحلول عام 2060، لن تضم أي دولة أوروبية بمفردها أكثر من 1 في المئة من سكان العالم. ولهذا، يتعين على الأوروبيين أن يستمروا في تجميع وتقاسم سيادتهم الوطنية، بهدف تأسيس سيادة مشتركة أشد قوة من أجل الجميع. وتتمتع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بوصف كل منها عضواً في السوق المنفردة الأكبر على مستوى العالم، بوضع يسمح لها بالدفاع، على أفضل نحو، عن مصالحها الوطنية وتشكيل الأحداث العالمية، على نحو لم يكن ليتسنى لها منفردة.

بالنظر إلى المستقبل، تتلخص مهمتنا في تعزيز هذه السيادة الأوروبية إلى ما هو أبعد من ذلك، وهذا يعني التحدث بصوت واحد، والالتزام بقيمنا، والوفاء بوعودنا لمواطنينا، قبل انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2019.

إن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتبع إيقاعاً متناغماً عادة، فقد انكسر العالم من قبل، وقد رأينا كيف يؤدي هذا إلى الفقر والشقاق والحرب، ويعرف الأوروبيون -أو ينبغي لهم أن يعرفوا- هذا النمط، حق المعرفة. وعلى هذا، يتعين علينا أن نحارب الشعبويين في هذا العالم، هؤلاء الذين يروجون للأمل الزائف المتمثل في فجر جديد، وأولئك الذين يضعون الخيال في محل الواقع، ويستحضرون «الأعداء»، القدامى منهم والجدد.

يتعين على أوروبا أن توفر الثِّقَل الموازن لهذه الاتجاهات والميول، من خلال إظهار قدرتنا على الاستمرار في مناصرة التسوية والإجماع، وليس سياسة الرجال الأقوياء، فالآن يحتاج العالم إلى العدل والتقدم... العالم يحتاج إلى أوروبا.

*جان كلود يونكر

* رئيس المفوضية الأوروبية.

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»