في الدفاع عن القومية
من خلال المقارنة بين الديمقراطيات المستقرة الناجحة مثل السويد وألمانيا وسويسرا، التي تتمتع بحس قومي قوي، وبلدان تفتقر إلى روابط وطنية قوية، بما في ذلك أفغانستان، والصومال، والكونغو الديمقراطية، يبدو أن القومية تشكل عنصراً ضرورياً للاستقرار السياسي.
يبدو أن "تهديد" القومية أصبح منتشراً على نطاق واسع، ومع وصف هذه الأيديولوجية في الأغلب الأعم بعبارات لا تخلو من تحقير وازدراء فقد أصبحت الآن مرادفة لكراهية الأجانب، والشعبوية، والاستبداد، والديمقراطية غير الليبرالية. في الشهر الماضي، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اللوم على النزعة القومية المفرطة فيما يتصل بإذكاء نيران الحرب العالمية الأولى، وحذر من "الشياطين القديمة" التي تهدد بإعادتنا إلى "الفوضى والموت".في إطار مثل هذا الخطاب، يصبح من السهل أن نفترض أن القومية، بأشكالها كافة، لابد أن تُحال إلى مزبلة التاريخ، حتى أن المفكرين المثقفين فقدوا القدرة على عقد مناقشة مفيدة حول فضائل القومية ورذائلها، لكن كتابا حديثا للمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري يعرض الفرصة لتصحيح هذا الخلل.في كتاب "عشرون درساً للقرن الحادي والعشرين"، يطرح هراري سؤالاً مهماً: هل من الممكن أن تعالج القومية مشكلات العالَم الذي تحكمه العولمة، "أو أنها مجرد انغماس نزق ربما يهدد البشرية والمحيط الحيوي بالكامل بالكارثة؟" لم تأت إجابة هراري عن هذا السؤال مفاجئة؛ فمن خلال تأطير مناقشته في سلسلة من التحديات البيئية، والنووية، والتكنولوجية، يخلص إلى أن القومية لن تؤدي إلا إلى الصراع والكارثة.
ومع ذلك، ينحاز تحليل هراري باتجاه مخاوف عالمية، فالهواء القذر يعبر الحدود الوطنية، والحرب النووية كفيلة بالتأثير على العالَم بأسره، ولكن من الممكن أن ننظر إلى القومية من زاوية أخرى: في سياق التحديات التي يجب معالجتها على المستويين المحلي والوطني، مثل التفاوت الاقتصادي بين الناس، وعدم الاستقرار السياسي، والانقسامات الاجتماعية، وضعف الحكم، ولو بدأ بقائمة محدودة من المشاكل، فإن حكمه على القومية كان ليأتي مختلفا تماما.لاحظ الخبير الاقتصادي توماس بيكيتي أن الدولة القومية سهلت تطور "الدولة الاجتماعية": نظام الخدمات الذي يعزز المساواة ويعمل على تحسين نوعية الحياة، ومن منظور أي شخص يرى أن التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حاجة ماسة إلى العلاج ــ كما أرى أنا ــ فمن المنطقي أن تبذل المحاولات لإحياء المشاعر الوطنية لضمان التماسك الاجتماعي في خدمة "الدول الاجتماعية".ولكن حتى لو قبلنا قائمة هراري، فإن استنتاجاته تظل متسرعة، فعلى سبيل المثال، في حين أنه من المغري من منظور قائد يواجه كارثة بيئية أو نووية تكريس قدر أقل من الاهتمام للقضايا الاجتماعية المحلية، فإن التعاون العالمي الفَعّال يعتمد على الدولة الفردية القوية، ويصدق هذا بشكل خاص الآن، وقد أصبحت الثقة في فعالية المؤسسات العالمية عند أدنى مستوياتها على الإطلاق. من الواضح أن هراري كان مصيباً فيما يتصل بمسألة واحدة: فليس في مقدور أي دولة أن تتصدى للتحديات العالمية وحدها، ولكن من الخطأ أن نستنتج أن الدول الفردية زائدة على الحاجة، وكون الدول لا تتمتع بالقدر الكافي من القوة لإحداث فارق عالمي ليس دليلاً على وجود كيانات سياسية أخرى يمكن أن تحل محلها.من الإنصاف أن نقول إن هراري يعترف بالدور الذي تلعبه القومية في الحكم، على سبيل المثال، يقول هراري إنه من الخطأ أن نفترض أن العالَم الخالي من القومية يصبح تلقائياً مكاناً سلمياً وليبرالياً، بل على العكس من ذلك، ربما ينزلق مثل هذا العالم إلى "فوضى قَبَلية". ومن خلال المقارنة بين الديمقراطية المستقرة الناجحة مثل السويد وألمانيا وسويسرا، التي "تتمتع بحس قومي قوي" وبين "بلدان تفتقر إلى روابط وطنية قوية"، بما في ذلك أفغانستان، والصومال، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، يخلص هراري إلى استنتاج مفاده أن القومية تشكل عنصراً ضرورياً للاستقرار السياسي، وعلى هذا فقد يستنتج المرء أنه من الخطورة بمكان أن نستغني عن القومية.مثلها كمثل أي أيديولوجية سياسية، تحمل القومية أوجهاً عديدة، وبعضها أشد قبحاً من غيره، وتُعَد مناهضة العولمة الغاشمة مثالاً ساطعاً هنا، فالبلدان التي تتبنى هذا النوع من القومية تثير الصراع بلا داع، وتقوض احتمالات التعاون عبر الحدود الوطنية، لكن أشكالاً أخرى من القومية التي تحرص على إيجاد توازن أفضل بين المحلي والعالمي مفيدة وتستحق الدعم، فالقومية ليست قادرة على المساعدة في تعزيز قوة الدول العاملة بشكل جيد فحسب؛ بل من الممكن أن تخدم أيضا كأداة لتعزيز التضامن في الجهود التي تبذلها الحكومة لمعالجة التحديات الاجتماعية المحلية، ومحاربة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، ورعاية الفئات الاجتماعية التي تخلفت عن الركب، وعلى هذا فإن الأفضل ليس التخلي عن القومية، بل توجيه سماتها المفيدة لإعادة إنشاء الدولة الاجتماعية.لا شك أن المنتقدين محقون في شجب ورفض الشوفينية (الغلو في التعصب الوطني) والكراهية، لكن رفض القومية في المطلق أمر سهل، ومن الواجب على المثقفين أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن يعملوا على وضع إطار للحجج الكفيلة بمساعدة الحكومات في إيجاد التوازن الصحيح بين الالتزامات الوطنية والإقليمية والعالمية.* يولي تمير* رئيسة كلية شنكر، وأستاذة مساعدة في كلية بلافاتنيك للإدارة الحكومية بجامعة أكسفورد، ومؤلفة كتاب "القومية الليبرالية"، وكتاب "لماذا القومية؟".«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»
من الخطأ افتراض أن العالَم الخالي من القومية سيصبح تلقائياً مكاناً سلمياً وليبرالياً بل على العكس ربما ينزلق مثل هذا العالم إلى «فوضى قَبَلية»