تؤكد استقالة وزير الدفاع جيم ماتيس أن ترامب يصوغ اليوم سياسته الخارجية وحده عموماً، ومن خلال هذه السياسة التي تنبع في الظاهر من قرار ترامب، الذي أعلنه عبر "تويتر"، عن إخراجه القوات العسكرية الأميركية من سورية، أعرب ترامب في الواقع عن استيائه من ماتيس وتوافق الحزبين في مجال السياسة الخارجية الذي دعمه، لذلك سيجد المحافظون أنفسهم أكثر تمزقاً في الأشهر المقبلة بين وفائهم لترامب ودعمهم الطويل الأمد لهذا التوافق.لطالما كان عدم ثقة ترامب بالارتباط العالمي الأميركي جلياً، مع أن كثيرين لم يتنبهوا إليه؛ فقد شكك في اتفاقات دفاعية بين الولايات المتحدة وحلفائها تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، ولم يحاول إخفاء شكوكه في هذه الاتفاقات خلال حملته. ويبدو ترامب اليوم مستعداً للعمل وفق أعمق غرائزه.
صحيح أن معتقدات ترامب تبتعد عن المدرسة المحافظة العصرية، إلا أنها تعود إلى الحركة الجمهورية لما قبل الحرب العالمية الثانية. في تلك الحقبة، أيد الحزب الجمهوري فرض قيود على الهجرة، والرسوم الجمركية، وإبقاء الولايات المتحدة خارج الصراعات الأجنبية، وهكذا تشكّل نقاط خلاف ترامب الثلاث الأكثر أهمية مع عقيدة الحزب الجمهوري الحالية عودة إلى العقيدة القديمة.لطالما توقعت الإدارة بمختلف أجزائها "العودة إلى المستقبل"، هذا في السياسة الخارجية، فقد عرض مقال في صحيفة "نيويورك تايمز" بالتفاصيل الدقيقة اجتماعاً عقده ماتيس في يوليو عام 2017 في غرفة وزارة الدفاع السرية التي تُعرف بـ"الدبابة"، ويشير هذا التقرير إلى أن ترامب راح يصغي بكل هدوء فيما كان ماتيس وغيره يوضحون شبكة الولايات المتحدة من التحالفات والروابط الاقتصادية والعسكرية، ولكن عندما انتهوا، يُقال إن ترامب رد: "هذا بالتحديد ما لا أريده".قد يوافق أميركيون محافظون كثر، فضلاً عن أعداد كبيرة من قاعدة ترامب من الطبقة العاملة، الرئيس رأيه، إذ دفعت معضلة العراق، الصراع في أفغانستان المستمر منذ 17 سنة، ونحو عشرين سنة من الارتباط العسكري الأميركي المتواصل الناس إلى السأم والإعياء، حيث أُنفقت تريلونات الدولارات وفُقدت آلاف الأرواح، ولكن كل هذا من أجل ماذا؟ إذن، عندما يشكك ترامب في التوافق بشأن السياسة الخارجية الذي يؤيده المحافظون، فليس هو الوحيد في حزبه بالتأكيد.لا أعتقد أن ترامب مصيب بشأن سورية، وخصوصاً لأن روسيا تتدخل في هذا البلد مباشرةً، فما من حليف للولايات المتحدة قد يخاطر بخوض مواجهة عسكرية مع الدب الروسي، مما يمنح بوتين اليوم حرية كبيرة للانتقال من استعمال الجيش الروسي لدعم النظام السوري ومحاربة "داعش" إلى الضغط على حلفاء الولايات المتحدة من شتى الأطياف، لكن هذا لا يعني أن ترامب لا يطرح الأسئلة الصحيحة عن السياسة الخارجية الأميركية.لم نبنِ هذه الشبكة الكبيرة من الارتباطات إلا بعدما أظهر السوفيات أننا لا نستطيع الوثوق بهم عقب الحرب العالمية الثانية، وقد شُيّد هذا الصرح على مفهوم أن أمن الولايات المتحدة الخاص سيكون مهدداً من قوة عدائية ذات ميول عالمية ما لم تتخلَّ واشنطن عن عزلتها التقليدية. لكن انهيار الاتحاد السوفياتي أزال مبرر ارتباطات مماثلة، إلا أننا لا نتخلص من العادات القديمة بسهولة، فضلاً عن أن حلفاءنا اعتادوا الاعتماد على القوة الأميركية، نتيجة لذلك، استمرت الأساليب القديمة بزخمها الخاص.نعيش اليوم في عصر مختلف، إذ يزداد خصومنا قوةً، مقارنةً بتسعينيات القرن الماضي، كذلك تراجعت قوتنا الاقتصادية النسبية بسبب العولمة وبروز الصين. في الوقت عينه، صار حلفاؤنا أكثر ثراء مما كانوا عليه قبل سبعين سنة حين أعاقت اقتصاداتها المنهارة إنتاج الجيوش الضرورية لكي يتمكنوا من التصدي للسوفيات وحدهم.ولكنْ: ما الصيغة المناسبة لهذه الحقبة؟ لا أشاطر ترامب معارضته الصريحة للنظام العالمي ما بعد الحرب، إلا أنني أعتقد أنه يطرح غالباً الأسئلة الصحيحة، على حلفائنا بذل مجهود أكبر، كذلك من الضروري خفض استخدامنا جيشنا واستعادة جاهزيته كي يتمكن من خوض حروب حقيقية واسعة النطاق من دون القلق حيال ما إذا كان يملك العدد الكافي من الطائرات، والسفن، والآليات العاملة لإنجاز المهمة. ولا شك أن مشاكل كثيرة في العالم تتطلب القوة الأميركية لحلها، لكن مشاكل كثيرة أخرى لا تستوجب ذلك. سيزداد على الأرجح ابتعاد ترامب عن توافق السياسة الخارجية (ماذا عن أفغانستان؟) وسيدفع هذا المدافعين عن توافق الحزبين في السياسة الخارجية إلى إعادة النظر في طبيعة هذا النظام، وهذه مناظرة طال انتظارها.* هنري أولسن*«واشنطن بوست»
مقالات
ترامب يصوغ السياسة الخارجية وحده: إلى أين سيقودنا؟
25-12-2018