بين كل اللطخات التي أحدثها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ربما تكون ادعاءاته الكاذبة بشأن الاتحاد الأوروبي هي الأكثر سفوراً والأشد قبحاً، ففي أكتوبر الماضي قال ترامب: «لا أحد يعاملنا بشكل أسوأ من معاملة الاتحاد الأوروبي، فقد تشكل هذا الاتحاد بهدف استغلالنا تجارياً، وهذا هو ما فعله الأوروبيون».

من الواضح أنه لا شيء قد يكون أبعد عن الحقيقة من هذا التصريح. ومع ذلك، كلما أعربت عن تخوفي إزاء مثل هذه التعليقات، مع أصدقاء يخدمون في إدارة ترامب، تلقيت نفس الرد: «تَجاهَلي الخطاب والتغريدات؛ وانتبهي إلى السياسات». فهل ينبغي لأي منا، ممن يعربون عن قلقهم بشأن التحالفات الأميركية القائمة منذ أمد بعيد، أن يشعر بالاطمئنان إلى هذه الحجة؟

Ad

من ناحية، تعكس بعض سياسات إدارة ترامب -خصوصاً الزيادة الكبيرة في التمويل لمبادرة الردع الأوروبي- التزاماً حقيقياً راسخاً بحلفاء أميركا الأوروبيين، لكن من ناحية أخرى، لا تكفي مثل هذه السياسات لمواجهة الضرر الدائم الذي تلحقه إدارة ترامب بالعلاقات عبر ضفتي الأطلسي، بفِعل خطابها المدمر واحتقارها الواضح لأوروبا.

لنتأمل هنا سلسلة دامت ما يقرب من عامين من الإساءات من البيت الأبيض، فمنذ تنصيبه، سارع ترامب إلى اتهام عمدة لندن صادق خان بسوء التصرف الشديد في مواجهة الإرهاب، ثم زعم زوراً وبهتاناً أن معدلات الجريمة في ألمانيا آخذة في الارتفاع، وألمح إلى هجمة إرهابية في السويد لم تحدث قَط، ووصف الاتحاد الأوروبي صراحة بأنه «عدو»، كما اتهم فيديريكا موغيريني، التي تشغل منصب ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للشؤون الخارجية والأمن، بأنها تكره أميركا.

الواقع أن مثل هذه التصريحات في حد ذاتها (وهناك الكثير غيرها) تمثل خروجاً صارخاً على اللغة، التي استخدمها الرؤساء الأميركيون السابقون لوصف أصدقاء أميركا الأوروبيين، لكن كلمات ترامب تصبح أكثر إثارة للقلق والانزعاج عندما تقارَن بلغة الإطراء التي يستخدمها في وصف خصوم الولايات المتحدة.

تُرى، هل هو أمر ينطوي على أي أهمية عندما يمتدح ترامب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ودكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون، في حين ينتقد في الوقت نفسه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؟ تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أنه أمر مهم بالفعل، فعلى مدار السنوات الثماني عشرة الأخيرة، سواء كان الأميركيون ينظرون إلى روسيا بارتياب أو أمل، كان الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء ينظرون إلى ذلك البلد من خلال نفس العدسة إلى حد كبير، لكن المديح المتعذر تفسيره الذي يكيله ترامب للرئيس بوتين أدى إلى تفتت هذا الإجماع.

ووفقاً لدراسة مسح أجرتها مؤسسة غالوب، في يوليو الماضي، يكاد الجمهوريون يكونون الآن أكثر ميلاً بنحو الضعف، مقارنة بالديمقراطيين، إلى النظر نحو روسيا إيجابياً.

على نحو مماثل، هناك من الأدلة ما يشير إلى أن تعليقات ترامب المهينة حول منظمة حلف شمال الأطلسي تعمل على تعطيل الدعم الثنائي الحزبية، الذي تمتع به الحلفاء لأكثر من سبعين عاماً، ففي الفترة من 2016 إلى 2018، قفزت نسبة الجمهوريين الذين أخبروا مؤسسة يوغوف للبحوث بأنهم يريدون الانسحاب من حلف شمال الأطلسي من 17% إلى 38%، في حين دعمت نسبة 38% أخرى استمرار العضوية في الحلف. وفجأة، أصبح الحزب الذي حافظ فترة طويلة على دعم التحالفات العسكرية عند طريق مسدود بشأن القضية الأساسية المتمثلة في حلف شمال الأطلسي.

إلى جانب تسييس القضايا التي كانت تحظى ذات يوم بالإجماع من جانب الحزبين، يعمل ترامب بنشاط أيضاً على تقويض المشروع الأوروبي، ومنذ إنشاء الاتحاد الأوروبي، كان الرؤساء الأميركيون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري يفترضون عن حق أن «هذا الاتحاد المتزايد القوة والمتانة» يصب في مصلحة أميركا الوطنية، لكن ترامب أنهى هذا التقليد بشكل مفاجئ، فهو لم يشجع دول الاتحاد الأوروبي صراحة على الخروج من الكتلة فحسب؛ بل ذهب أيضاً إلى فرض رسوم جمركية على صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبالتخلي عن الاتفاق النووي مع إيران، تسبب في تخريب أحد أهم إنجازات التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة.

وبإضعاف الوحدة الغربية، وترك وظائف السفراء شاغرة في مختلف أنحاء أوروبا، وشن هجمات شخصية ضد قادة أوروبيين، أوضح ترامب نواياه بقوة. والواقع أنه يجرد أميركا من أصولها في العلاقة عبر الأطلسي، ويتخلى عن الدور القيادي التقليدي الذي اضطلعت به أميركا على الساحة العالمية، وفي إطار مؤسسات مثل منظمة حلف شمال الأطلسي.

ورغم أن ترامب وأعضاء حكومته حريصون على حضور الاجتماعات الوزارية ومؤتمرات القمة، فإن مشاركاتهم لا ترقى إلى مستوى القيادة إلا قليلاً.

لنتأمل هنا قمة حلف شمال الأطلسي في يوليو الماضي، إذ كانت كل السياسات «القابلة للإنجاز» تقريباً متفقاً عليها قبل عدة أشهر، وقد أعيد تغليفها فقط لإعطاء قادة الحلف ما يحتفلون به، وحتى إصلاح هيكل القيادة العسكرية للحلف -جوهرة التاج في قمة هذا العام- جرى الانتهاء منه قبل أشهر بين وزراء الدفاع، وكان هناك على الأقل بعض التقدم نحو إغلاق فجوات الاستعداد وتحرك القوات؛ لكن هذه الإنجازات أسقطت بفعل نوبة الغضب التي أصابت ترامب بشأن الإنفاق الدفاعي، وهي قضية مهمة لا تخدمها مثل هذه الدراما الإضافية.

ولكن، بدلاً من دفع حلف شمال الأطلسي إلى التعامل مع قضايا صعبة، مثل الذكاء الاصطناعي واستكشاف أو عسكرة الفضاء، قرر مستشارو ترامب أن مجرد حمل رئيسهم ببساطة على الظهور أمر لا يخلو من إنجاز في حد ذاته، لكن هذا الحلف لم يعد بوسعه أن يستمر في العمل على الطيار الآلي. والواقع أن غياب اليد الأميركية عن أدوات التحكم لأربع أو حتى ثماني سنوات يفتّ بشدة في عضد الحلف، ويهدد بالإضرار بوحدته وقدراته على نحو لا يمكن إصلاحه.

كانت العلاقات بين أميركا وأوروبا معقدة وعامرة بالنزاعات السياسية دائماً، لكن على النقيض من الرؤساء السابقين، يشكك ترامب في القيمة الأساسية للعلاقة عبر الأطلسي، وفي سعيه إلى تقويضها، وضع يده في أيدي أمثال بوتين، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والرئيس الصيني شي جين بينغ.

عندما يتولى الرئيس الأميركي السادس والأربعون منصبه، لا ينبغي له أبداً أن يستسلم لأي أوهام حول ما يستلزمه إصلاح الأضرار التي أحدثها ترامب، وسواء كان ذلك في يناير 2021 أو 2025، فإن مجرد العودة إلى الوضع الراهن بعد الحرب لن يكون خياراً وارداً، فالعودة إلى الاستثمار في العلاقة عبر الأطلسي تستلزم إعادة تعريفها أولاً، ولن يكون العام المقبل موعداً سابقاً للأوان للبدء في التفكير بشكل خلاق في مسارات جديدة للتعاون.

*نائبة مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، وزميلة مركز «من أجل أمن أميركي جديد»، وزميلة زائرة في أكاديمية بوش في برلين حالياً.

«جوليان سميث*»