تسود الواجهتين السياسية والاقتصادية، هذه الأيام، أكثر من قضية شعبوية يتبناها عدد كبير من نواب مجلس الأمة، أبرزها تتمثل في المساعي لإقرار قانون التقاعد المبكر، إلى جانب طرح قضية «إسقاط القروض» عن المواطنين، التي مضى هذا الشهر 12 عاماً من أول تصويت برلماني رافض لتمريرها.ولطالما كانت القضايا الشعبوية، وعلى رأسها تغيير قانون التقاعد وإسقاط القروض عن المواطنين المقترضين من البنوك المحلية، خلال السنوات الماضية من أبرز القضايا الشعبوية والانتخابية، التي يسعى بعض النواب لتسويقها، موظفين العديد من الحجج؛ بعضها يمكن التحاور بشأنه، وأغلبها خارج سياق المنطق.
فخ التقاعد المبكر
فقانون التقاعد المبكر، الذي مر في مجلس الامة بمداولته الأولى، ظاهره منفعة للمواطن وباطنه أقرب الى الفخ، إذ ان المنفعة فيه لو تحققت ستكون للميسورين الذين لديهم مداخيل تجارية او ميراث، ولكنه على الاغلب لن لا يفيد محدودي الدخل الذين سيتكبدون، حال التقاعد قبل 5 سنوات من المدة النهائية للخدمة، ربع المعاش التقاعدي المخصوم أصلا من الراتب الاجمالي للموظف، فضلاً عن أن خصم الـ 2 في المئة يخص من اتم سنوات الخدمة، دون بلوغ السن القانونية للتقاعد، وسيستمر هذا الاستقطاع الى ما بعد تحقيق شرط السن، مما يمكن أن يؤدي في أقل أحواله الى أضرار معيشية كبيرة للأسرة الكويتية تنتهي باحتمالات تكبيد الدولة في سنوات لاحقة عبء معالجة هذه الأضرار المعيشية من ضمن اعباء اخرى باهظة تتحملها المالية العامة للدولة.ما يحمله التقاعد المبكر لا يتوقف عند كونه أقرب الى مضرة المواطن من منفعته، فالضرر هنا ليس ماليا فقط -خصوصاً ان الدولة هي من يدفع الكلفة، سواء كان الراتب الوظيفي او المعاش التقاعدي- بل في أن الحكومة التي تسوق للقانون اكثر من النواب انفسهم لم تربط مزايا التقاعد المفترضة باحتياجات سوق العمل، بمعنى ان تعطى الوظائف الجديدة ذات الاحتياج الحقيقي حاليا ومستقبلا في الدولة مزايا تقاعدية كالممرضين او مدرسي المواد العلمية او الفنيين في قطاعات الكهرباء والمشاريع والنفط وغيرهم، فضلا عن ترغيب حديثي التخرج في العمل بالقطاع الخاص، ليكون جانب من التقاعد المبكر هنا ميزة للاقتصاد أيضا.داخل الصندوق
أما قضية اسقاط القروض التي يبدو تمريرها بقانون في غاية الصعوبة، نظراً لطبيعة النظام السياسي في الكويت الذي يتيح للحكومة حق التصويت في مجلس الأمة، فضلاً عن حق رد القوانين التي لا توافق عليها، فإنها تتشابه مع «التقاعد المبكر» في أنهما يعبران عما يعرف بالتفكير داخل الصندوق، مع أن هناك خيارات متنوعة خارج «الصندوق» تُحقق العديد من الفوائد للمواطنين، عبر أفكار جديدة ذات فوائد على المدى البعيد؛ بعضها يقلل كلفة الدولة ويمنحها أموالا بدلاً من الأخذ منها.فبعيداً عما يكاد يكون نقاشا مكررا، في كل مرة يفتح فيها الحديث عن إسقاط القروض والتقاعد المبكر؛ كالكلفة على الميزانية السنوية أو حتى الاحتياطي العام، والحديث المطول عن العدالة بين المقترضين وغير المقترضين، فضلاً عن اختلاف شرائح المقترضين أنفسهم لإسقاط القروض، الى جانب الحديث عن الاضرار المترتبة على الحسابات الاكتوارية ومستقبل المشتركين في التأمينات او الآثار التضخمية والاستهلاكية والاجتماعية لأي قانون شعبوي- فإن هناك بدائل يمكن تبنيها كبديل عن مقترحات كهذه، لكنها تحتاج بكل تأكيد الى ما هو أبعد من التفكير الانتخابي، لتعزيز ما يعرف بمنظومة الأمان الاجتماعي للطبقة المتوسطة والعمل على زيادتها، وهو ما يستدعي مهنية من المشرعين وجودة من المنفذين، وهو للأسف ما باتت تفتقده الكويت كثيراً، خصوصاً في السنوات الأخيرة.خيارات الاستثمار
فمثلا كان من الأجدر، بدلاً من الحديث السهل عن إسقاط القروض أو التقاعد المبكر والتسابق لتأييدهما، أن يتم التركيز على توسيع خيارات الاستثمار على المدى الطويل، عبر تشريعات لشركات كبرى في قطاعات متنوعة يحتاج إليها الاقتصاد الكويتي؛ كالبنية التحتية (الموانئ والمطارات) والصناعات البتروكيماوية، والتكنولوجيا والاتصالات، والطيران، والمدن اللوجستية والخدمية والصناعية، وغيرها، تكون الملكيات فيها للمواطنين والدولة، أما المشغل من القطاع الخاص فتكون حصته عبر المزاد العلني، وهنا تتحقق الفائدة الجماعية بشكل حقيقي للدولة، عبر الحصول على تمويلات لمشاريعها، وللمواطن من خلال الاكتتاب بمشاريع تشغيلية ذات مستقبل، وللقطاع الخاص بتوافر الفرص الاستثمارية.وفي الحديث عن تحقيق الفائدة، عبر الشركات الكبرى، يمكن أيضاً الحديث عن اعطاء الاولوية في ترسية المناقصات العامة في الدولة للشركات المساهمة والمدرجة في بورصة الكويت، عوضا عن الشركات المقفلة، لتحقيق قدر اكبر من المنفعة للمساهمين، مع التشديد على ضرورة تغيير عقلية تنفيذ المشاريع الكبرى من نظم المناقصات الى الشراكة كـ BOT أو PPP.مساكن الكويتيين
وإذا كان حديث داعمي مقترحات إسقاط القروض والتقاعد المبكر يستهدف، كما يقال، إنقاذ الاسرة الكويتية فإن أفضل خيار هنا يكون عبر عمل وجهد يتعلقان بتوفير السكن الملائم للاسر الكويتية، التي يصل عدد طلباتها «المخصصة وغير المخصصة» لدى مؤسسة الرعاية السكنية، إلى ما يتجاوز 150 ألف طلب إسكاني، يمثلون من خلال أسرهم ما بين 40 الى 50 في المئة من المواطنين، منهم من اقترب موعد تقاعده ولا يزال دون سكن، وتنفق شريحة كبيرة منهم ما يتجاوز ثلث دخلها على الإيجارات المتصاعدة أسعارها سنوياً، إضافة إلى كلفة الدولة السنوية من مخصص «بدل الإيجار»، الذي بلغ العام الماضي 250 مليون دينار، مما يعني أن العمل على حل الازمة الاسكانية يمثل فائدة اكثر ديمومة من اي قانون شعبوي، فضلاً عن قضايا أخرى مرتبطة بشبكة الامان الاجتماعي؛ كتطوير مختلف الخدمات الصحية والتعليمية المجانية، مما يجعل مصروفات الاسرة الكويتية أقل، وأكثر ترشيداً.مكافحة الاحتكار
ولا شك أن اتخاذ إسقاط القروض كردة فعل على الغلاء هو قياس فاسد وافتراض منحرف، فمع الأخذ بعين الاعتبار ان إسقاطها يعني رفع مستوى السيولة النقدية المتداولة في السوق، مع احتمال اعادة الاقتراض مجدداً وبنهمٍ أكبر، مما يعني ارتفاع حساسية السوق للتضخم، بينما محاربة الغلاء السليمة في أي سوق تبدأ من مكافحة جميع أوجه الاحتكار، لاسيما تلك المتعلقة بالأراضي المؤجرة على املاك الدولة، والتي تتيح امتيازا لوكلاء سلع وبضائع على حساب المنافسين -إن وجدوا- بفعالية في السوق.أضف إلى ذلك وجود ارتفاع غير مبرر لمعظم أسعار السوق، بسبب شيوع التأجير بالباطن على أملاك الدولة، لدرجة أن بعض الأسواق المحلية يوجِد بين الدولة مالكة الأرض والمشغل الفعلي سلسلة تصل احيانا الى 6 أشخاص من عقود التأجير بالباطن المتوالية، مما يضر بالدولة كمحصل لقيمة متدنية جدا من مبلغ الإيجار؛ يمكن أن ترفعها بشكل معقول لو كان تعاملها المالي فعلا مع المشغل النهائي، الذي ايضا يتضرر من دفع مبالغ متضخمة لغير الدولة، وبالطبع للمستهلك النهائي الذي يتحمل غلاء اسعار ناتج عن تشوه السوق وانحراف جهود مكافحة الاحتكار. فضلاً عن ان معالجة هذا الوضع المنحرف في السوق ستوفر فرصاً استثمارية ووظيفية للشباب الكويتي تعالج جوانب من رغبات التقاعد المبكر، بغية الانتقال للعمل الحر.حالات إنسانية
في مسألة اسقاط القروض، لا شك في أن هناك حالات فردية تستدعي تدخلا او معالجة، لتجاوز عثرتها، وهنا يمكن ان يكون الامر شبيهاً بما حدث قبل سنوات ضمن صيغ مشابهة لصندوق الاسرة، الذي سجل فيه عند تأسيسه نحو 26 ألف مواطن مقترض، ممن كانوا يحتاجون إلى بعض الدعم في هذا الشأن، وحصلوا على اعادة هيكلة لقروضهم على فترات طويلة، بقيم ناهزت 420 مليون دينار. وأي تدخل هنا يكون ضمن الأبعاد الإنسانية او الاجتماعية، وليس كمشروع مالي او اقتصادي.عذر الانفلات المالي
ثمة إشكالية مهمة لدى مؤيدي القوانين الشعبوية، مثل إسقاط القروض والتقاعد، تتعلق بشكل اساسي بالانفلات المالي لدى الدولة، وربما ما يقال منهم في هذا الاطار هو أوجَهُ نقطةٍ في دفاعهم عن قضيتهم، وهنا لا ينفع كثيرا الحديث المثالي عن ان وجود خطأ لا يبرر القيام بخطأ آخر، لأن الشواهد على الانفلات المالي وهدر الانفاق وانحرافه، وحتى محدودية المستفيدين منهم تكاد تكون يومية في بلد يعترف وزير ماليتها بأن الهدر في الإنفاق الحكومي يبلغ 40 في المئة من الميزانية، وهنا يجب على متخذي وصانعي السياسة العامة العمل بجدية قبل مواجهة اي مطالب شعبوية، وعدم اعطاء «الممسك» للآخرين.