عام من الحياة دبلوماسياً في كوريا

نشر في 27-12-2018
آخر تحديث 27-12-2018 | 00:35
 بروجيكت سنديكيت في عام 2018، ربما تحملت كوريا الجنوبية من الاضطرابات السياسية قدراً أعظم مما تحملته أي دولة أخرى. فعلى الجبهة الداخلية، واصلت حكومة الرئيس مون جاي إن، الليبرالية الجديدة، اتخاذ التدابير في التصدي للفساد الراسخ، وتنفيذ السياسات الاقتصادية التقدمية (التي أخضعت لمناقشات محتدمة)، لمساعدة ذوي الدخل المنخفض، لكن أهمية هذه التغيرات تضاءلت إلى حد كبير بفِعل موجة من المنغصات والاختلالات من الخارج.

الواقع أن قِلة من الكوريين الجنوبيين توقعت من الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يُظهِر مثل هذا القدر من العزيمة والتصميم في تقويض النظام الدولي الليبرالي، الذي ظل قائماً منذ حقبة ما بعد الحرب، فقد خدم هذا النظام كأساس للنمو الاقتصادي في كوريا وتطورها الديمقراطي منذ ستينيات القرن العشرين.

والآن، بعد أن أصبح هذا النظام تحت التهديد، يتساءل الكوريون الجنوبيون بقلق ما إذا كان ترامب يشكل شذوذاً لن يدوم أكثر من فترة ولاية واحدة، أو أنه وسيط لتغيير دائم.

بعد التهديد الذي أطلقه ترامب في أبريل 2017 بإنهاء اتفاقية التجارة الحرة «الرهيبة»، التي ظلت طوال عشر سنوات تدعم التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الذي دام أكثر من نصف قرن من الزمن، شعر الكوريون الجنوبيون بالارتياح عندما شهدوا توقيع ترامب ومون اتفاقاً منقحاً في سبتمبر. ومع ذلك، فإن الحرب التجارية التي تشنها إدارة ترامب ضد الصين كفيلة، بكل تأكيد، بتوجيه ضربة اقتصادية قاسية إلى كوريا الجنوبية.

وقد حَـذَّر مسؤول تجاري كبير من أنها «ستكون من أكثر الاقتصادات تضرراً في العالم، إذا اندلعت حرب تجارية شاملة»، لاسيما أن هذا يحدث في ظل اقتصاد متباطئ بالفعل، وإذا فشل مون في التصدي لتحديات مثل تقلص عدد السكان في سن العمل واتساع فجوة التفاوت، فقد تنتهي الحال بكوريا الجنوبية إلى رئيس من نفس نوعية ترامب.

من جانب أكثر إيجابية، انحسرت المخاوف من اندلاع صراع عسكري على شبه الجزيرة الكورية، ففي نوفمبر 2017، ذهب بعض خبراء السياسة الخارجية الأميركيين إلى أن احتمالات اندلاع حرب مع كوريا الشمالية تصل إلى 50%، غير أن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية تعملان اليوم مع كوريا الشمالية على إيجاد صيغة قابلة للتطبيق، لنزع السلاح النووي وإحلال السلام الدائم.

وفي هذا الصدد، كان 2018 عاماً بالغ الأهمية، إذ بدأ التحول من الأزمة إلى الدبلوماسية، عندما استجاب الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بشكل إيجابي، في خطاب الاحتفال بالعام الجديد، للمبادرات من جانب مون؛ لكن هذا التحول يدين بقدر كبير من زخمه للنهج السياسي الجريء الذي تبناه ترامب.

كان مون يشير إلى انفتاحه على الحوار مع كوريا الشمالية، منذ تولى منصبه في مايو 2017، حتى إنه وجه الدعوة إلى الرياضيين الكوريين الشماليين للمشاركة في دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في فبراير 2018، وبهذا بات الطريق إلى الحوار ممهداً بين الكوريتين. وخلال زيارة قام بها مبعوث خاص من كوريا الجنوبية إلى بيونغ يانغ، أشار كيم للمرة الأولى، إلى أنه ربما يتخلى عن برنامجه النووي، وأنه راغب في لقاء ترامب لمناقشة هذا الأمر. ومنذ ذلك الحين، قال كيم إنه يعتزم التخلي عن «خط بيونغ جين» (تطوير الأسلحة النووية واقتصاد كوريا الشمالية بشكل متزامن)، والتركيز فقط على التنمية الاقتصادية.

بعد ثلاث جولات من اجتماعات القمة بين الكوريتين، وقّع مون وكيم إعلان بيونغ يانغ المشترك في 19 سبتمبر، والتزم كلا الجانبين بتحويل شبه الجزيرة الكورية إلى «أرض سلام خالية من الأسلحة النووية والتهديدات النووية»؛ كما وعدت كوريا الشمالية بتفكيك موقع اختبار محركات الصواريخ دونغ تشانغ ري، ومنصة إطلاق الصواريخ هناك. وقد اتفق الطرفان أيضاً على «توسيع وقف الأعمال العسكرية في مناطق المواجهة»، بما في ذلك المنطقة المنزوعة السلاح، على الحدود والخط الحدودي الشمالي في البحر الغربي.

وفي مجمل الأمر، يَعِد الإعلان المشترك بتحقيق تقدم حقيقي ملموس نحو الحد من احتمال نشوب مواجهة عسكرية تقليدية، والتي هي أكثر احتمالية من الحرب النووية.

من ناحية أخرى، في قمة «ترامب - كيم» التاريخية في سنغافورة في 12 يونيو، توصلت الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إلى اتفاق من أربع نقاط يعبر عن «رغبة شعبي البلدين في تحقيق السلام والازدهار». ولكن برغم أن هذا البيان المشترك كان بمثابة تحول بالغ الأهمية في دبلوماسية الولايات المتحدة، فإنه لم يسلم من الانتقادات بسبب افتقاره إلى التفاصيل حول الجدول الزمني لنزع السلاح النووي وطريقة تنفيذه. ولمعالجة هذه القضايا، واصل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عقد الاجتماعات مع مسؤولين كوريين شماليين، وقام بزيارة بيونغ يانغ أربع مرات على مدار العام.

بعد عودته من زيارته الأخيرة، عندما التقى كيم مدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، تحدث بومبيو عن تقدم غير محدد نحو نزع السلاح النووي في الشمال، لكن العديد من المتخصصين والمراقبين تساورهم الشكوك، ذلك أن نظام كيم، لم يتخذ حتى الآن أي خطوة جادة على الرغم من فورة المحادثات.

لا أحد يستطيع أن يجزم بما قد يحدث لاحقاً، لكنْ حتى المتشككون في الولايات المتحدة يتفقون على أن الدبلوماسية المستمرة أفضل من قعقعة السيوف، على غرار ما حدث في 2017. وبالنظر إلى المستقبل، فإن الكثير سيتوقف على استعداد صناع السياسات في الولايات المتحدة لتبني نهج براغماتي عملي في التعامل مع نظام كيم. والواقع أن التصدي للتهديد المتمثل في كوريا الشمالية المسلحة نووياً مسألة بصيرة وإدراك، بقدر ما يُعَد قضية ردع، فمن الواضح أن الدولة الصغيرة المعزولة المدمرة اقتصادياً، التي تحيط بها قوى عظمى، لابد أن تشعر بعدم الأمان تحت أي ظروف.

وعلى هذا، فإن كيم لن يتخلى عن أسلحته النووية قبل أن يتأكد من أن نظامه قادر على تحقيق الازدهار بدونها، ولكن في حين يعلم العديد من صناع السياسات في الولايات المتحدة بالفعل أن معالجة مخاوف النظام الأمنية شرط أساسي لنزع السلاح النووي، فإنه لم يتخذ أي تدبير حقيقي على هذه الجبهة. علاوة على ذلك، يظل من غير المعلوم ما إذا كانت إدارة ترامب قادرة على حشد الدعم اللازم من الكونغرس لدفع العملية إلى الأمام.

على سبيل المثال، ربما تنظر الولايات المتحدة في إعلان سلام لإنهاء الحرب الكورية، وفضلاً عن ذلك، يمكنها أن تنشئ مكتب اتصال في بيونغ يانغ، أو تمد المساعدات الإنسانية إلى الشمال (خارج إطار العقوبات الاقتصادية)، أو يمكنها أن تدعو فرقاً رياضية، وفنانين وموظفين بيروقراطيين، وطلاباً من كوريا الشمالية، للمشاركة في أحداث ثقافية أو السعي إلى فرص تعليمية في الغرب، وبالتالي تعريضهم للديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، ولن يضعف أي من هذه الخيارات نظام العقوبات، التي قد تظل قائمة إلى أن يُـتِم نظام كيم نزع سلاحه النووي.

سَمَح كيم للرئيس مون بمخاطبة 150 ألف كوري شمالي بالفعل، وهو ما تقرر في زيارة غير مسبوقة إلى سيول، كما وجه الدعوة إلى البابا فرانسيس لزيارة بيونغ يانغ، وتشير هذه الإيماءات إلى أنه ربما يريد أن يصبح دنغ شياو بينغ كوريا الشمالية، صحيح أنه لا أحد يستطيع أن يتخلى عن الحذر في التعامل مع نظام كيم؛ ولكن لا ينبغي للمرء أن يندهش أيضاً إزاء قائد شاب ربما يريد ملاحقة استراتيجية مختلفة عن تلك التي انتهجها والده.

لم يتمكن دنغ من التركيز على التنمية الاقتصادية إلا بعد أن خلقت الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بيئة خارجية أكثر محاباة للصين. وإذا كان كيم جاداً بالفعل في التحرك نحو دولة طبيعية واقتصاد صالح للحياة في القرن الحادي والعشرين، فلا ينبغي للمجتمع الدولي أن يقف في طريقه. في هذه الحالة، قد يكون 2019 عاماً من التقدم المستمر نحو شبه الجزيرة الكورية المسالمة الخالية من الأسلحة النووية.

* وزير خارجية جمهورية كوريا سابقاً، وأستاذ العلاقات الدولية الفخري في جامعة سيول الوطنية حالياً.

«يون يونغ كوان»

back to top